تتعامل الصهيونية مع العقيدة الدينية اليهودية من منظور الهوية ومعنى الوجود، وقد ساهم هذا التوجه في تهويد الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة عن طريق إسقاط المصطلحات الحلولية عليها ويرى أصحاب التيار الصهيوني الأثني الديني أن الدين اليهودي هو أساس القومية اليهودية ولا يمكن أن تقوم لها قائمة بدونه وهو ما يعرف بـ “العقيدة اليهودية” فأن لحلول الله في شعبهم فكرة لن يتجاوزوها وبقت هي الجوهر في جميع تحركاتهم وتفاعلاتهم الحياتية منها والدينية والعسكرية..
إن دعاة الخطاب الصهيوني باتجاهه الديني قد ركزوا على الهوية وعلى الديباجة الأثنية أكثر من تركيزهم على الأمور السياسية والاقتصادية وجعلوا منها هي المنطلق والمحور المُحرك لبقية الأمور المُتعلقة والمرافقة للتوسع، فهم يتحدثون عن لغة المستوطنات الصهيونية القومية ونوعية القوانين التي ستسود فيها وعلاقتها بالتراث اليهودي ومدى توافق سلوك مُستوطنيها مع قيمهم الدينية، وقد اهتموا كذلك في المشاريع الثقافية التي توحد وعيهم (وعي مواطنيهم الجماعي)، بعلاقة تجمع بين مستوطنيهم.
إن مُنطلق العقيدة الدينية للصهيونية يبدأ مع بدايات التنظيمات الصهيونية الدينية والتي من أهمها في تجسيد فكرة موضوعنا هو تنظيم (مزراحي) الذي يعد مزج بين كلمتين (مرکز) و (روحاني) وهما كلمتان عبريتان وقد طرحت الحركة شعار (أن أرض إسرائيل لشعب إسرائيل حسب شريعة وتوراة إسرائيل) ولخص الشعار في عبارة (توراة وعفوداة) اي ( التوراة والسعي) والذي يعني أن على الصهيوني أن يتعلم الشريعة اليهودية، وأن يعمل بنشاط من أجل إعادة بناء إسرائيل، فإن هذه الأساسات هي المنطلقات التي أستند عليها تبرير أحقية إسرائيل في فرض وجودها على الأرض الذي جعلوا منها موعداً وميعاداً لهم، كما وأردفت هذه الحركة بحركة أخرى لترسيخ وجودهم وهي (أجودات إسرائيل) وينصب اهتمامها على الشؤون التربوية لترسيخ الأفكار والمبادئ والأسس الصهيونية اي الجانب المعنوي من الثقافة، وبعد أن كانت هذه الحركة مُناوئة للصهيونية في بداية تأسيسا تحولت بعد مدة قصيرة بعد الانقسامات داخل مُستوطناتهم إلى حركة عنصرية ذات ديباجة دينية تلعب دوراً خطيراً في تنشئة الأجيال الجديدة في إسرائيل على كره العرب وتفرض عليها الخطاب الأثني الديني. يرى عزمي بشارة بعد احتلال ما تبقى من فلسطين في حرب ١٩٦٧ طرأ تحول على مواقف معظم الأحزاب الدينية الصهيونية من اعتبار هذه الحرب معجزة وإشارة ربانية إلى اعتبارها بداية للخلاص، حيث تلخص الموقف الجديد بالقول بأنه صحيح أن إسرائيل بوصفها كياناً صهيونياً تعبير عن الكفر والتمرد على إرادة الإله، إلا أنها بالتأكيد ليس تعبيراً عن الخلاص، ومن ناحية ثانية تم التأكيد على عدم قدسية إسرائيل، ومع أن هذه حقيقة نؤمن بها وكل الحركات المُناهضة لوجودهم إلا أنهم استطاعوا أن يُصدروا الفكرة عبر لوبياتهم الإعلامية إلى تحول أرض إسرائيل(مُستوطناتهم) إلى أرض ذا قيمة دينية وجعلها تقترب كثيراً من مواقف (جوش إيمونيم) التوسعية اليمينية الاستيطانية وجعلها بنظر من يؤمن بهم من حلفاء حق شرعي..
إن أي قوة مُسلحة تحتاج إلى القوام الفكري المُستل من الأيديولوجية التي تدفعها وتحركها وتجعلها تبدأ بعملياتها العسكرية او تنهيها وهي ما يُطلق عليها بالعقيدة العسكرية التي هي عبارة عن مجموعة من الأفكار والقيم والأعراف والمنطلقات الوجدانية والأهداف التي بواسطتها يتم خوض اي حرب دون تردد، ويتم الاعتماد على توجيهاتها الرسمية بشكل إلزامي من قبل القوات المُسلحة، كما ويلتزم بتلك التوجيهات الجيش لخوض اي حرب يُكلف بها وتختلف العقيدة العسكرية باختلاف القيم والأفكار والأديان وتدخل في محركاتها عوامل أخرى جغرافية اقتصادية وسياسية.
ارتقت العقيدة العسكرية الى مستوى العلم بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، فهي مزيج بين العلم والثقافة، حيث ان العلم يُقصد به هنا تقنيات السلطة وطبيعة الحكم الذي يُحرك تلك العقيدة، أما الثقافة فهي الأهم عندنا كمختصين في حقل الانثروبولوجيا أذ تتخللها المُعتقدات الدينية والقيم والأعراق العسكرية التي توجه هذا النوع من العقائد ومن خلالها يتجسد الواقع الديموغرافي الجديد الذي يسعى إلية المُستعمر عند خوضه الحرب حيث تُعد هذه من أسمى غاياته، اما المكون الآخر للعقيدة العسكرية فتشكله النظريات وهو كل ما ينتجه العقل العسكري من أفكار والذي يترتب عليه صنع العقيدة العسكرية التي تتوقف على القيم المجتمعية النابعة من ثقافة المجتمع، كما أنها تتوقف على عمليات تحليل عميق لطبائع الخصوم والتهديدات المتوقعة والمعتقدات الدينية لمن يخوضوا معهم الحرب، وطبيعة القوات الصديقة والحليفة، مع البحث في التراث الذي انحدرت منه الخصوم والذي قام بتشكيل الهوية عندهم وإجراء اللازم للعمل به بالتركيز على نقاط القوة وتحاشيها كما الانتباه على نقاط الضعف والضغط عليها.
تميل الأنثروبولوجيا عادة إلى إعادة ترتيب الأدلة وتقسيمها وفق ثنائية سرديات أفراد الثقافة، حيث يُستعمل العنف ويوظف من قبل الصهيونية على نحو استراتيجي منظم ليجبر المُقاومين الفلسطينيين وكُل من وقف ضد وجودهم على الخضوع، وقد تغدو تأثيرات التجربة العنيفة ومخلفاتها مصادر معلوماتية مهمة تُشكل الأساس الذي تستند إليه الدراسات، وتُسهم هذه المعلومات في تحديد الآليات التي يوظفها الباحثون في مجال التنظير للعنف المرافق للحرب وتدخل تجربة العنف في وعي الباحث الإثنوغرافي أثناء ملاحظته، وهذه تحديداً اللحظات التي يُحاول استعادتها لإنتاج لحظة انعكاسية، لحظة تفتقرها الأعمال الأخرى التي تناولت الموضوع نفسه ولا سيما تلك الأعمال المُنتجة خارج حدود الأنثروبولوجيا، والتي تنتج عنها الحرب بوصفها خطاباً احدى مُخلفاته العنف، ويقع هذا الخطاب على ثلاثة فئات داخل الميدان: الرابحين والخاسرين والملاحظين، لا تُمثل المجموعة الأخيرة مصالح مُتباينة ومستويات مُختلفة من الانخراط في فعل الحرب فحسب، بل إنها تعكس كذلك خلفيات ثقافية مختلفة ففي ضوء معرفتنا تكون هذه المُقاربة ملائمة تماماً لتحليل حروب بعينها بوصفها أحداثاً متعددة الأوجه، حيث أثبتت مقاربات مثل هذه كفاءة عالية لجهة تسليطها الضوء على صورة الحرب الثقافية كذلك، وبغية تحليل نموذج الحرب نجد أن الحرب تُقدم نفسها للمحلل في مستويين مختلفين هما، مُستوى الحرب بوصفها فعلاً يقع ضمن عوامل ملموسة وقابلة للملاحظة، ونستطيع ان نختم حديثنا بنتيجة نود الوصول إليها فبما ان الانثروبولوجيا بدأت مع بداية الاستعمار واستعملوها كأداة لمعرفة الشعوب التي يُرغبون بالسيطرة عليها وبالفعل قد عملوا بها وحققوا غايات سعوا لها، وبما انها اي الانثروبولوجيا سلاح ذو حدين نستطيع أن نستعملها كذلك من خلال دراساتنا المُكثفة عن هذه الموضوعات كأداة للمُقاومة من جانب ومن ثم الردع وتحرير الأراضي المُغتصبة كردة فعل يفترض أن تكون طبيعية، حيث عززت الأنثروبولوجيا الثورية وتسمى أيضا الانثروبولوجيا المُستقبلية والتي قادتها المدرسة الثقافية النسبية الأمريكية فكرة إبادة الاستعمار وتحرير الشعوب ليس سياسياً واقتصادياً فحسب، بل حتى ثقافياً مـن خـلال فضـح مخططات تاريخ التوسع الغربي سواء بأدواته العنيفة أو المرنة التي يبادر بها إلى توجيه دفة العالم لصالحه بدعوى أهليته الفكرية والعلمية والتكنولوجية، وقد لعبت الثقافة النسبية دوراً كبيراً في الحفاظ على الأنساق الثقافية الأصيلة من الإقصاء أو المحو المبرمج على مراحل من خلال هذه الدعوة المضادة للاستعمار، ولقد فرض هذا الواقع الجديد اختيار استراتيجية مناسبة لكسب الرهان فمناهضة الاستعمار لم تكن عملاً عسكرياً فحسب، بل كانت عملاً ثقافياً أيضاً تسلحت به الإدارة الاستعمارية، أي العلم أي التمسك بالإرث الذي أرادت تلك الإدارة طمسه أو تغييره أو تبديله، بمعنى آخر الحُرص على صيانة الهوية الجماعية للشعوب التي شرع في تهميشها وتقليص أهميتها منذ المد الإمبريالي حتى أنها قد نُعتت بـ”الآخر “حينـا وبـ” البعيد” أو “الغريب” أحياناً، إلى أن جاءت العولمة كنمط إمبريالي مـا بعـد حـداثي لتصـفها بـ”المحلي” ولا يليق أن يفسر هذا الحرص على صون الهوية نوعـاً من الانغلاق على الذات ورفض التواصل البناء والمتوازن مع الآخر، بل يعني بالأساس حماية مبدأ التماسك (هوية إثنية، هوية محلية، هوية وظيفية…) فتكوين هوية جماعية يفرض حركة مفاضلة، انطلاقاً منها يتأكد الاستقلال الجماعي، السيادة الجماعية في الداخل، إنها تسبب على خلاف ذلك، تأثير ذوبان يمحو تعددية الانتماءات، لا مناص إذن، في عالم اليوم المحكوم بالمثاقفة وسقوط الحدود والحواجز بين البلدان والأجناس والديانات والثقافات، من تقبل منطقي ومسؤول لفكرة التعددية الثقافية التي تشكل الأساس الحقيقي للهوية اليوم، حيث أنها لا تؤدي بالضرورة دائما إلى السيطرة والعداوة، بل تؤدي في أحيان كثيرة إلى المشاركة، وتجاوز الحدود، وإلى التواريخ المشتركة، والمتقاطعة إلا أن هذا التقبل يظل حبيس رغبة مثالية لا ترقى إلى هزم الواقع الصراعي الراهن للثقافة اذا ما أردنا أن نتحدث بواقعية، فإدوارد سعيد الذي يؤمن بحتمية التعايش الثقافي، يصرح في نقاش له مع رايموند – ویلیامز حول راهنية الثقافة ومستقبلها، في ظل الهيمنة التكنولوجية لوسائل الاتصال المتطورة بكيفية مذهلة مما جعل الثقافة منقسمة انقساماً عميقاً وحاسماً تحتدم داخلها علاقات صراع فعلي، لأن الثقافة قد استُعملت بشكل جوهري لا كشرط للتعاون والجماعية أو الاشتراك، ولكن كشرط للاستعباد، ويمكننا من هذا المنظور اعتبار المصطلحات الجديدة التي تنتجها العولمة مثل “العالمي” و”المحلي”، ليست ساذجة أو بريئة تنطوي على نوايـا حسنة، لأن الحاجة المُلحة حالياً داخل عالم يستبد به السبق التكنولوجي.
إن تركيزنا على هذه الجزئية جاءت للرد على العقيدة الدينية العسكرية للصهيونية التي تجلت واضحة بانعكاسها في الحرب من خلال النصوص والخطابات التي يوجهها القادة الصهاينة في حروبهم التوسعية حتى بعد توليد الإلحاد من وحدة الوجود ولم يعد من الصعب تبني الصهيونية كعقيدة والدمج بينها وبين اليهودية مع افتراض أن اليهودية الحلولية هي التي ستُحقق الانتصار النهائي بعينهم، وقد كان اليقين عندهم من أن جيل المستوطنين الصهاينة في فلسطين هو الجيل الذي تتحدث النبوءة عنه وعن أنه ينتمي الى عصر (الماشيخ) وأن الرواد بغض النظر عن علمانيتهم كانوا ينفذون تعاليم الدين باستيطانهم الأرض في فلسطين ومن الشواهد الدامغة في ترجمة ذلك هو أن نتنياهو قد سمى الحرب القائمة على غزة ب”حرب القيامة”.