
انتصار غزة كان حتميا.. وتجاهل حقوق الشعب الفلسطيني تبقى خطيئة كبرى.. لماذا شجع الرئيس ترامب على وقف إطلاق النار؟ وهل انه حقا يريد ايجاد حل دائم للقضية الفلسطينية؟
د. سعد ناجي جواد
قد يتصور البعض أني أبالغ إذا ما قلت ان انتصار غزة والمقاومة قناعة لم تزعزع في نفسي منذ انطلاق عملية طوفان الاقصى، واستمرت كذلك رغم كل الآلام والتضحيات والخسائر البشرية الهائلة، والتدمير الشامل الذي أحدثه الاحتلال في البنية التحتية في كل القطاع، وهذا رأي كتبته في وقت مبكر على هذه الصحيفة: (غزة لن تُهزم وطوفان الأقصى هو بداية الانتصار الفلسطيني الكبير. 2024/2/18).
في حديث لي مع صديق عزيز أثناء عمليات طوفان الأقصى قال لي إن المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، وبالذات حماس، لا تعرف ما ينتظرها، حيث أن إسرائيل تخطط لقصف شامل للمناطق الفلسطينية أو كما سماها (عملية القصف السجادي، والتي أطلق عليها جيش الاحتلال خطة الجنرالات)، والتي ستمحو كل شيء يتحرك أو مبني على الارض في كل المناطق التي تتجرأ على التصدي للاحتلال. وكان ردي عليه إن ذلك معروف لدى الفلسطينيين، وأن إسرائيل نفذت هكذا عمليات أكثر من مرة في السابق. وكذلك فعلت الولايات المتحدة الأمريكية في فيتنام وكوريا ومؤخرا في الفلوجة، وفرنسا في الجزائر، وكل ذلك لم يمنع المقاومة من الاستمرار والانتصار. وان التهديد بهذه الإساليب الهمجية لم يعد يخيف أي مقاومة، وهذا ما اثبتته التجارب.
أصحاب الأراء المشابهة لرأي صديقي، وبعد وجدوا أن (القصف السجادي) لم ينفع بدأوا ترديد مقولة ان المقاومة هي المسؤولة عن كل التدمير والفواجع التي حصلت، وربما ابلغ رد على هذه الأصوات الفرحة الجماهيرية الكبيرة التي إستقبل بها أبناء غزة افراد المقاومة عندما ظهروا على سطح الأرض بعد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ. ان من يقول مثل هذا القول لا يدرك حقيقة مهمة هي ان جيش الإحتلال باساليبه الهمجية والوحشية غير المسبوقة والقتل العشوائي لعشرات الألآف من الفلسطينيين وجرح اضعاف ذلك العدد دفع الشعب الفلسطيني دفعا الى الوقوف الى جانب المقاومة، لأنها اصبحت من وجهة نظرهم الطرف الذي اعاد لهم كرامتهم، والجهة الوحيدة القادرة على الأخذ بثاراتهم وجعل الإحتلال يتجرع من نفس الكاس الذي يحاول ان يسقيه لكل الفلسطينيين بدون إستثناء. وخير دليل على ذلك ما قاله وزير الخارجية الأمريكي السابق بلينكن، الذي فعل كل ما في وسعه للمساعدة في إنهاء المقاومة، (كيهودي صهيوني كما قال هو) اعترف قبل أيام من نهاية وظيفته ان حماس استطاعت ان تكسب من الشباب الفلسطيني ضعف ما خسرته في القتال.
الآن أكثر ما يغيظ حكومة الإحتلال هو ذلك الظهور الرائع الجميل الذي ظهر به مقاتلو حماس عند تسليم الأسرى، رغم كل الوجع الكبير في النفوس والخسائر البشرية الفادحة وفي ارض دمرت بالكامل. وبالتأكيد فان ذلك اشعر حكومة الاحتلال بأنها فشلت في فعل أي شيء باستثناء قتل الأطفال والنساء والأبرياء وهدم المنازل والبنايات على رؤوس أصحابها، أما المقاومة فظلت تعمل، بدليل انها قبل وقف إطلاق النار بساعات وبيوم واحد استطاعت قتل 10 جنود وضباط إسرائيليين، وإصابة آخرين بجروح. هذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن البال، بل هذا ما يجب أن يفكر به من يحكم إسرائيل، إذا ما فكروا بإعادة الكرة مرة ثانية. ولو أن كل الدلائل، وخاصة أحاديث نتنياهو ووزراءه المتطرفين، تؤكد أنهم، رغم علمهم بالحالة المزرية التي وصل لها جيشهم وأفراده، لم يستوعبوا التجربة والدرس وانهم يخططون لهجوم آخر، يشجعهم في ذلك وصول الرئيس ترامب الى الحكم.
ربما يكون الخطر الأكبر على القضية الفلسطينية هو الرئيس الأمريكي الجديد وإدارته المليئة بالصهاينة المتضامنين مع الإحتلال. فعلى الرغم من كل ما قيل عن دوره في فرض وقف اطلاق النار وإيقاف الحرب في غزة، إلا انه ارسل إشارات مشجعة لنتنياهو والصقور امثاله. كيف؟ ابتداءا ان كل من لديه علم بسياسات الرئيس الجديد، يدرك انه لا يقيم اي اعتبار للحقوق الفلسطينية، وأنه أراد ايقاف الحرب لسببين، الأول هو انه كان حريصا على عدم وجود اي حدث دولي او اقليمي خطير وكبير يغطي على حفل تنصيبه، وثانيا لأنه اُعلِمَ من قبل مستشاريه ان إسرائيل لن تربح الحرب وان المقاومة باقية، لذلك فهو أراد ان يوقف القتال كي يتعامل مع القضية باساليب ملتوية (وخبيثة) كما فعل اثناء دورته الأولى عندما طرح فكرة الصلح الإبراهيمي، ووضع الفلسطينيين امام الأمر الواقع، بنقل السفارة الأمريكية الى القدس المتحاة واعتبرها (العاصمة الأبدية لإسرائيل)، او عندما دفع بعض الأنظمة العربية دفعا للإعتراف دبلوماسيا بدولة الإحتلال تحت إسم التطبيع.
خير برهان، أو براهين على ما قيل أعلاه إنه في خطاب تنصيبه والكلمات الأخرى الأكثر تفصيلا التي ألقاها في نفس اليوم، لم يأت على ذكر فلسطين اوحل الدولتين او الحقوق الفلسطينية. وكذلك كان موقف الشخص الذي إختاره لكي يكون مبعوثه الى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف. وزاد الإثنين على ذلك بأن استقبلوا مجموعة تمثل بعض عوائل إسرى لدى حماس وأظهر الرئيس نفسه تضامنا كبيرا معهم، وترك منصته ونزل كي يصافحهم واحدا واحدا. بكلمة أخرى انه أظهر إهتماما إستثنائيا بحياة حوالي مائة إسير إسرئيلي، ولم يفكر بحياة الالآف من السجناء الفلسطينيين في سجون الإحتلال، قسم غير قليل منهم من الأطفال والنساء وقسم آخر مسجون بدون أمر قضائي او محاكمة.
ربما تكون عبارة أن أي خطة تطرح لحل القضية الفلسطينية لا يمكن أن تنجح بدون أخذ وجهة نظر الفلسطينيين بعين الاعتبار عبارة مكررة أكثر من اللازم، ولكنها تبقى صحيحة جدا. المشكلة أن كل الأطراف حاولت تطبيق أساليب وأفكار مختلفة سابقا، وكلها فشلت ولم تنجح، ولن تنجح لسبب بسيط هو أن المشكلة هي ليست في التطبيع وهي ليست مع الدول العربية التي تبعد آلاف الكيلومترات عن فلسطين، ولا مع أطراف لم يخسروا أرضهم ولم يشردوا من بلادهم لكي يصبحوا لاجئين في وطنهم او خارجه، الطرف الأساسي في المشكلة الذي يجب أن يفكر به السيد ترامب وغيره هو فلسطين والفلسطينيون، إذا أرادوا حقا إحلال السلام في المنطقة. والبديهية الأخرى المكررة كثيرا هي إذا لم تُحل قضية فلسطين لن يكون هناك شيء اسمه هدوء في الشرق الأوسط أبدا. بدليل بانه بمجرد ما عاد الهدوء الى غزة انفجرت الإضطرابات في الضفة الغربية، وإسرائيل تعلم جيدا، ونتنياهو يعلم أكثرمن غيره رغم مكابرته الفارغة، إن كل بقعة في فلسطين قابلة للإنفجار في وجه قوات الاحتلال في أية لحظة، وأن الشعب الفلسطيني لن يتنازل عن حقوقه بعد الآن، هذه الحقوق التي اكتسبها بنضاله وأقرتها له كل المواثيق والاتفاقات الدولية.
وتبقى هناك مشكلة أخرى هي في داخل البيت الفلسطيني، المتمثلة في عدم النجاح في الوصول إلى مصالحة وطنية شاملة. إن الأطراف الفلسطينية المختلفة مطالبة الآن وأكثر من أي وقت آخر، أن تجد الطريقة التي توحد فيها صفوفها بوجه الاحتلال. والمنظمات المدنية الفلسطينية مطالبة أن تلعب دورا محوريا في ذلك. لأن بوجود التعاون بين السلطة الفلسطينية والإحتلال ستظل الإنقسامات تنخر في جسد الحركة الوطنية الفلسطينية. ليس هناك حاجة للدخول في تفاصيل كيف يمكن تحقيق هكذا مصالحة، فلقد كتب عنها الكثير وتم الحديث حولها أكثر. لكن هذا الهدف الأساسي هو الوحيد الذي يغلق الباب أمام إسرائيل والولايات المتحدة وكل طرف آخر يحاول زرع الفتنة بين أطراف الشعب الفلسطيني.
هنيئا لأبناء غزة الحبيبة، درة المقاومة، نصرهم الذي صنعوه بصمودهم، وأعاد الله لهم أسراهم سالمين، وشافى جرحاهم، ورحم وغفر لشهدائهم الذين تبوأوا المكانة التي أستحقوها بجدارة، واستحقوا أن يكونوا كما قال الله تعالى (مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين).