
انتخاب زهران ممداني اول رد فعل لطوفان الأقصى على الساحة الدولية. كيف تلقى الرئيس ترامب أكثر من صدمة موجعة في يوم واحد
د. سعد ناجي جواد
لا يمكن وصف انتخاب زهران ممداني كعمدة لولاية نيويورك إلا بكونه اهم تغيير ليس في الساحة الأمريكية فقط وانما على الساحة الدولية بصورة عامة. ان ينجح مسلم مهاجر مؤيد للحق الفلسطيني، ومتزوج من سيدة من أصل عربي (سوري)، ان يفوز كعمدة في مدينة يعيش فيها أكبر تجمع يهودي في العالم، فهذا حدث كبير بكل المقاييس. حدث قلب كل المعايير والتوقعات، وسيكون له ما بعده. واهم ما فيه انه جاء بأصوات جزء من جيل الشباب اليهود في نيويورك.
لم يخف ممداني تأييده لغزة وللحق الفلسطيني منذ اول يوم لترشيح نفسه، وتحدث بصراحة عن ذلك، واستنكر جرائم إسرائيل وحرب الابادة التي تشنها في غزة والضفة الغربية بكل قوة. عندما جرت مناظرة بين المرشحين الخمسة للمنصب قبل الانتخابات سال من أدار النقاش المرشحين ماهي الدولة التي ستزورها بعد فوزك، أجابوا جميعهم إسرائيل باستثناء ممداني. وبعد ذلك، وردا على سؤال حول ما إذا كان سيسمح لنتنياهو بدخول نيويورك، اجاب انه سيأمر باعتقاله تنفيذا لحكم المحكمة الجنائية الدولية.
أكثر من غضب من هذه النتيجة إسرائيل، لم يضيع الوزراء المتطرفين الوقت لاستنكار ومهاجمة ممداني وفوزه. بن غفير قال ان “انتخاب ممداني سيبقى عار عالق في الذاكرة”، متهما إياه بانه مؤيد لحماس ومعاد للسامية وعدو لإسرائيل، (هذه هو فهمه للعملية الديمقراطية التي جرت). اما وزير الشتات الاسرائيلي فلقد استغل الحدث لكي يطلب من يهود نيويورك ان يهاجروا فورا إلى إسرائيل لان الولاية لم تعد آمنة بالنسبة لهم بعد فوز “عمدة معادي للسامية”. المندوب الإسرائيلي السابق لدى الأمم المتحدة والولايات المتحدة، جلعاد إردان، أعرب عن أسفه للنتيجة، وكتب بتدوينة على منصة إكس أن “كارهًا لإسرائيل، ينظر إلينا كدولة إبادة جماعية تمارس الفصل العنصري، يقود الآن أهم مدينة في العالم، موطنًا لأكبر عدد من السكان اليهود خارج إسرائيل”. واضاف أنه “يومٌ أسود” لمن يُدركون “الأهمية البالغة للتحالف مع الولايات المتحدة”. وحذر من أن “ما حدث في نيويورك قد يحدث قريبا في جميع أنحاء الولايات المتحدة، بما في ذلك في الكونغرس وحتى البيت الأبيض”. بدوره كتب وزير الدفاع والخارجية الإسرائيلي السابق، أفيغدور ليبرمان، على منصة إكس: “لقد سقطت نيويورك”، واصفًا ممداني بأنه “رمز الجهاد الصامت”، ووصف ليبرمان النتيجة بأنها “دعوةٌ قويةٌ لإيقاظ يهود نيويورك الذين يعشقون الحياة، للانتقال إلى حيث ينتمون – أرض إسرائيل”.
بدورها ساهمت النخب الاقتصاديّة والمعلقين المحافظين في وسائل الإعلام في الهجمات الهجمات الشرسة على سياسات ممداني وأصوله الإسلامية، ولكن كل هذه المحاولات فشلت، ومعها مئات الملايين من الدولارات التي صرفت ضده.
الرئيس ترامب الذي أبدى مسبقا انزعاجه من تقدم ممداني في استطلاعات الرأي، وحاول بشتى الوسائل ان يثني الناخبين في نيويورك عن انتخابه، واتهمه بشتى أنواع الاتهامات، (شيوعي واشتراكي ومعادي لليهود الخ)، وصف من يؤيدونه ويسعون إلى انتخابه من اليهود (بالأغبياء)، ثم انتقل إلى التهديد بحجب المساعدات الفدرالية عن ولاية نيويورك. ثم حاول هو ومن معه من الجمهوريين الضغط على الناخبين بوسيلتين الاولى التلويح بالورقة البالية التي تقول انه معادي للسامية والثانية ان عمره الصغير (34 عاما) يجعله غير ذي خبرة في الادارة. لكن رد الناخبين جاء ساحقا ومزلزلا (حصل ممداني على 50.5% من الأصوات متفوقا على اقرب منافس بحوالي 9% من الاصوات). ثم توالت الصدمات على الرئيس ترامب عندما فاز مرشح الحزب الديمقراطي في نفس اليوم بمنصب حاكم ولاية نيوجرسي متفوقا على خصمه الجمهوري الذي يحظى بتأييد الرئيس، وكذلك فازت المرشحة الديمقراطية في ولاية فيرجينيا متفوقة هي الأخرى على منافستها الجمهورية المدعومة من ترامب ايضا.
نتيجة انتخابات نيويورك بالذات اثبتت عدة امور. اولها، ان ادعاءات معاداة السامية الوسيلة التي أرعبت الكثير من السياسيين في السابق، بل ونجحت في إفشالهم وتقوقعهم وإسقاطهم، قد انتهى تأثيرها ولم تعد تملك ما كنت تملكه من قدرة على إرعاب من لا يسير في خط اللوبي الصهيوني. ثانيا، ان نسبة لا باس بها من اليهود أنفسهم سئموا السياسات العنصرية الاسرائيلية والجرائم التي ترتكبها العصابات الصهيونية باسمهم وبحجة الدفاع عنهم، وشاركوا في انتخاب ممداني (33% من أصوات يهود نيويورك ذهبت له مقال 63% إلى منافسه). ثالثا، ان المجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال والمدعوم امريكياً، جعلت تل ابيب وواشنطن منبوذتين دوليا، وانتقل هذا الشعور إلى داخل الولايات المتحدة. رابعا، ان القوى الصاعدة من الجيل الأمريكي الجديد، طلاب الجامعات وأعضاء النقابات والشباب في الحزب الديمقراطي، قد تجاوزوا حاجز الخوف من نفوذ المنظمات الصهيونية الذي تحكم بهم وأرعبهم منذ خمسينيات القرن الماضي، وسيكون لهم دور اكبر في صنع السياسات في المستقبل.
الفوز بعمودية نيويورك التي تعتبر واحدة من اكبر المدن الأمريكية من حيث السكان (حوالي ثمانية ملايين ونصف المليون نسمة وجالية يهودية متنفذة تصل إلى مليون نسمة، ومثلها من المسلمين) يبقى الحدث الأكبر في هذه الايام والذين لا يمكن الاستهانة به. خاصة وان نيويورك تعتبر الأرفع دوليا كونها تحتل المركز المالي والاقتصادي الاول في العالم. ويمكن ان يكون ما حدث مؤشراً على انتقال الرأي العام الأمريكي الداخلي من التأييد الكامل والمطلق لاسرائيل ومجازرها وعمليات الابادة التي ترتكبها، إلى النظر للقضية الفلسطينية بصورة منصفة.
بالتأكيد ان الطبقة الحاكمة المتمثلة بالحزبين وكذلك اللوبي الصهيوني، سوف لن يستسلموا بسهولة، وسوف يحاولون وضع العراقيل في طريق ممداني وادارته لإفشال تجربته، ولكن ما جرى اثبت ان قبضة المنظمة الصهيونية “ايباك” وكذلك كل جماعات الضغط الصهيونية الأخرى قد فقدت هيمنتها الكاملة وتحكمها بالسياسة الأمريكية، والاهم بين جيل الشباب من اليهود الذين كما ذكرنا ساهم قسم لا باس به منهم في فوز ممداني، ولكن الأهم هو اننا يجب ان نتذكر دائما ان كل ذلك تحقق بسبب قدرة المقاومة الفلسطينية على المطاولة وكشف الوجه الحقيقي لسياسات إسرائيل العنصرية والمجازر التي ارتكبتها، وبدعم مالي وعسكري كبير من الولايات المتحدة.




