
الحروب التي لا تُرى: كيف تفتك الصدمات النفسية بالمجتمعات العربية في زمن النزاعات؟
ماتريوشكا نيوز - بيروت
في العالم العربي، لم تعد الحرب مجرّد صور للدمار أو أرقام للضحايا. فبعد أن تصمت المدافع وتخمد الحرائق، تبدأ معركة من نوع آخر: معركة الإنسان مع نفسه. خلف كل حربٍ يعيشها المواطن العربي، هناك حربٌ أخرى تدور في داخله، حربٌ ضد الخوف، وضد الذاكرة، وضد الإحساس المستمر بانعدام الأمان.
المنطقة التي شهدت خلال العقود الأخيرة حروبًا متتالية — من فلسطين وسوريا والعراق إلى اليمن ولبنان والسودان وليبيا — تواجه اليوم واحدة من أخطر أزماتها الصامتة: أزمة الصحة النفسية. فبينما يُعاد بناء الجسور والطرقات، تبقى الجسور الداخلية داخل الإنسان العربي مهدّمة، والجروح النفسية مفتوحة على مصراعيها.
تقول الدكتورة ليلى حداد، أخصائية الطب النفسي، إن “الصحة النفسية أصبحت ضحية رئيسية للحروب في منطقتنا. فحين يتعرض الفرد للعنف المستمر، يفقد تدريجيًا إحساسه بالسيطرة على حياته، ويبدأ في تطوير أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، التي تشمل الأرق، والكوابيس، ونوبات الخوف، والعزلة، وصعوبات في التركيز واتخاذ القرار.” وتضيف أن ما يجعل الأزمة أكثر تعقيدًا هو غياب البنية الصحية والنفسية القادرة على الاستجابة لهذا الكمّ من الألم، خاصة في البلدان التي تعاني من انهيار أنظمتها الطبية والتعليمية.
تشير تقديرات منظمات الصحة العالمية إلى أن واحدًا من كل خمسة أشخاص يعيش في منطقة نزاع يعاني اضطرابًا نفسيًا متوسطًا أو شديدًا. ومع ذلك، لا تصل خدمات الدعم النفسي إلا إلى نسبة ضئيلة من المحتاجين، بسبب نقص التمويل، وضعف الكوادر، وغياب الوعي المجتمعي. وفي المجتمعات العربية خصوصًا، ما تزال وصمة المرض النفسي تشكّل حاجزًا هائلًا يمنع الناس من طلب المساعدة، إذ يُنظر إلى الاكتئاب أو القلق كعلامة ضعف، لا كمرض يحتاج إلى علاج.
الحرب لا تدمّر المدن فقط، بل تغيّر بنية العقول والقلوب. الأطفال الذين يكبرون تحت أصوات الانفجارات يفقدون تدريجيًا ثقتهم بالعالم. فكيف يمكن لطفلٍ أن يخطط لمستقبله وهو لا يشعر بالأمان في يومه الحاضر؟ تشير دراسات حديثة في سوريا وقطاع غزة إلى أن أكثر من 70% من الأطفال يعانون أعراض القلق والكوابيس واضطرابات السلوك. وفي اليمن، وثّقت منظمات دولية حالات اكتئاب حاد بين النساء بسبب فقدان الأزواج والأبناء وانعدام الأمل في المستقبل.
الدمار النفسي لا يقتصر على الضحايا المباشرين، بل يمتد إلى المجتمعات المحيطة التي تعيش في حالة استنفار دائم، إذ تترسخ ثقافة الخوف في اللاوعي الجمعي. في لبنان، مثلاً، بعد حرب تموز 2006، أظهرت الدراسات أن الآثار النفسية امتدت لسنوات طويلة حتى لدى من لم يتعرضوا مباشرةً للعنف، حيث سادت مشاعر القلق المزمن وانعدام الثقة بالمستقبل الاقتصادي والسياسي.
ويحذر خبراء علم النفس الاجتماعي من أن استمرار النزاعات في المنطقة قد يؤدي إلى ما يُعرف بـ”الاحتراق الجمعي” أو Collective Burnout، وهي حالة يصاب فيها المجتمع كله بالإرهاق النفسي والعاطفي، فيصبح اللامبالاة سلوكاً عاماً، واليأس طريقة دفاع ضد الألم. وتقول الباحثة اللبنانية رانيا المصري إن “أخطر ما في الحروب ليس فقط الخراب المادي، بل التطبيع مع الألم، حين تصبح الصدمة جزءاً من الحياة اليومية، فيتوقف الإنسان عن الإحساس تدريجيًا، كآلية للبقاء.”
في مواجهة هذا الواقع، تحاول بعض المبادرات المحلية والمنظمات الإنسانية كسر حاجز الصمت حول الصحة النفسية. ففي غزة وسوريا ولبنان، بدأت برامج دعم نفسي للأطفال والنساء، تتضمن جلسات علاج جماعية وفنية، وألعاباً تعليمية تهدف إلى إعادة بناء الإحساس بالأمان. غير أن هذه الجهود تبقى محدودة أمام اتساع حجم الكارثة. فالمعالجون النفسيون أنفسهم في كثير من الأحيان يعانون من الإرهاق والصدمة بسبب انخراطهم اليومي مع الألم.
من جهة أخرى، تبرز الحاجة إلى مقاربة عربية جديدة لمفهوم الصحة النفسية، تتجاوز النماذج الغربية الجاهزة لتراعي الخصوصية الثقافية للمجتمعات العربية. فالعلاج النفسي في بيئة ما بعد الحرب لا يمكن أن يقتصر على جلسة مع طبيب، بل يجب أن يكون مشروعًا وطنياً يدمج التربية، والإعلام، والدين، والمجتمع المدني في عملية شفاء جماعي.
تقول الدكتورة نجلاء خوري، أستاذة علم النفس الاجتماعي في جامعة بيروت، إن “البلدان الخارجة من الحروب تحتاج إلى عدالة انتقالية نفسية، لا قانونية فقط. لا يمكن بناء سلامٍ حقيقي دون معالجة الذاكرة الجماعية، ودون الاعتراف بألم الناس وحقهم في الشفاء.” وتشير إلى أن الصحة النفسية يجب أن تُدرج ضمن خطط إعادة الإعمار تماماً كما تُدرج مشاريع البنى التحتية.
إن ما يعيشه المواطن العربي اليوم ليس فقط انهياراً سياسياً أو اقتصادياً، بل انهياراً في الإحساس الجمعي بالأمان. فالخوف أصبح جزءاً من التركيبة النفسية، والقلق بات لغة يومية. وإذا لم يتم التعامل مع هذه الحالة بجدّية، فإن آثارها ستستمر لعقود، وستنتقل من جيل إلى جيل كما تنتقل الجينات.
فالحروب لا تنتهي بتوقيع اتفاقيات وقف إطلاق النار، بل تبقى تعيش في الذاكرة، في الأحلام، وفي نظرة الأطفال إلى المستقبل. والدمار النفسي الذي تخلفه النزاعات لا يُقاس بعدد القتلى، بل بعدد القلوب التي لم تعد قادرة على الحلم. ولهذا، فإن إعادة بناء الإنسان يجب أن تكون أولوية كل دولة وكل منظمة إنسانية في المنطقة، لأن الأوطان لا تُبنى على الخرائط فقط، بل في داخل العقول التي يجب أن تتعافى أولاً.




