• صخب وتناحر وتبادل الاتهامات في مجلس الأمن الذي بدا كجلسة “لحوار الطرشان” ومندوب روسيا يصف الجلسة بأنها للنفاق وازدواجية المعايير.
وكأنما تأكيدا لمضمون المثل الشعبي المذكور في عنوان هذه المقالة جاء انعقاد مجلس الأمن الدولي الطارئ بطلب مباشر من إسرائيل لبحث الهجوم الإيراني على إسرائيل، التي تناست تماما أنها قبل أسبوعين وتحديدا في الأول من نيسان قامت باعتداء سافر إمعانا في تحويل ما يسمى بكذبة أول نيسان إلى حقيقة، وهي أن تقوم دولة عضوة في الأمم المتحدة بتدمير قنصلية بلد آخر عضو في الأمم المتحدة، الأمر الذي كان يبدو قريبا من كذبة الأول من نيسان لكنه حدث.
-جوقة مجلس الأمن
كما هي العادة في مناقشة المواضيع الساخنة التي تتباين المواقف إزاءها، جاءت كلمات وأطروحات مندوبي مختلف الدول شبيهة بما يقال عن “حمام السوق الذي قطعت عنه المياه”، حيث يعلو الضجيج والهرج والمرج، أو عن حوار الطرشان، فالأصوات المؤيدة لإسرائيل نسيت تماما أن الهجوم الإيراني هو رد على قصف قنصليتها في دمشق، وكأن ذلك العمل أمر عادي ومشروع أو هو مبرر لأن إسرائيل قامت به على مبدأ “فرفور ذنبه مغفور”، وتعالت أيضا الأصوات الموضوعية أو التي تبدو أقرب إلى التعاطف مع إيران، فركزت تحديدا على أن الهجوم لم يأت من فراغ ، بل كان ردا على قصف إسرائيل للقنصلية الإيرانية في دمشق، وذهب بعضها أبعد من ذلك بتأكيدها على أن مجلس الأمن هو الذي تسبب في هذا الهجوم، ولنستحضر بعض الأمثلة لتوضيح الصورة:
– مندوبة فرنسا ناتالي برودهرست أدانت الهجوم وأكدت على أولوية ضمان أمن إسرائيل وخفض التصعيد
– وأدانت بربارة وودوارد المندوبة البريطانية الهجوم ووصفته بأنه متهور، وأن إيران تلعب دورا غير مقبول في زعزعة استقرار المنطقة
– وأكد روبرت وود نائب المندوبة الأمريكية لا ضرورة إدانة الهجوم وحسب، بل واعتبر أنه يهدد أمن جميع دول المنطقة، ولابد من اتخاذ تدابير إضافية لمحاسبة طهران
– واعتبر جلعاد أردان مندوب إسرائيل أن إيران اعتدت على إسرائيل من عدة دول هي العراق وسوريا ولبنان واليمن، ويجب وقف أطماعها قبل اندلاع حرب إقليمية.
– فيما أكد أمير سعيد إيرواني مندوب إيران أن هذا الهجوم جاء ردا على إسرائيل التي انتهكت ميثاق الأمم المتحدة بقصفها القنصلية الإيرانية في دمشق، وأن ذلك تعبير عن حقها في الدفاع عن نفسها
– ووصف نيبينزا المندوب الروسي اجتماع مجلس الأمن تلبية لطلب من إسرائيل هو عرض للنفاق والمعايير المزدوجة، وأنه يكاد يكون مخجلا خاصة أن الهجوم الإيراني لم يأت من فراغ بل نتيجة لعدم إدانة مجلس الأمن للهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية
– وكان موقف المندوب الصيني تشانج جيون قريبا جدا من الموقف الروسي مع تنويهه بأن استمرار الأوضاع الكارثية في غزة سيزيد من التوتر في المنطقة، وأن الهجوم على القنصلية الإيرانية في دمشق انتهاك خطير للقانون الدولي
– أما غوتريش الأمين العام للأمم المتحدة فاعتبر أن الشرق الأوسط على حافة الهاوية داعيا إلى خفض التوتر وزيادة ضبط النفس.
هذه الأمثلة تظهر تناقض المواقف بشكل ساطع وتشير إلى ثلاثة محاور: الأول تبادل الاتهامات الحادة بين إسرائيل وإيران، ثانيا إدانة الهجوم الإيراني من بعض الدول، وتبريره كدفاع عن النفس من دول أخرى، ثالثا المطالبة من غالبية الدول بوقف التصعيد وضبط النفس.
-مسرحية أم هجوم
تفاوتت التقييمات للهجوم الإيراني على إسرائيل، حيث اعتبرته بعض الأوساط انتقاما رائعا وحاسما، ودرسا قاسيا لإسرائيل، فيما ذهبت بعض الآراء إلى التقليل من أهميته، وحتى اعتباره مجرد مسرحية غير موفقة في هذا الظرف الحساس، ما يدفعنا إلى عرض تقييمنا الأولي للهجوم الإيراني على إسرائيل مع التمسك بالموضوعية، وعدم التورط في مستخرجات المواقف المسبقة التي تنطلق من أن ما تراه هو الحقيقة على مبدأ “عنزة ولو طارت”.
لننطلق أولا من أن إيران تدرك تماما أنها قوة إقليمية جدية، ولكنها ليست قوة عظمى كالولايات المتحدة التي تقف مع إسرائيل دائما ومستعدة لخوض الحرب لصالحها، وبالتالي فهي لا تريد مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة من هنا حرصت على أن تبلغ واشنطن أنها تنوي قصف إسرائيل لا شن حرب إقليمية، وهي بذلك تنوه بضرورة أن تتريث الولايات المتحدة في ردود فعلها على الهجوم، من هنا أبلغت عمليا واشنطن عبر سويسرا أو أنقرة بهجومها بعد أن كانت المسيرات في الجو، وربما ساعد ذلك واشنطن على الطلب من إسرائيل عدم الرد على الهجوم الإيراني، هذا التبليغ للأمريكان هو بالذات ما استندت إليه الانتقادات التي صورت الهجوم الإيراني بالمسرحية، لأن واشنطن وهذا بديهي تماما أبلغت إسرائيل على الفور بالهجوم الإيراني، واتخذت الإجراءات الاحترازية، وهي في الواقع متخذة منذ قصفها للقنصلية الإيرانية.
لماذا قامت إيران بهذه الخطوة؟ لنسأل أولا عن الهدف من الهجوم، إنه تلقين إسرائيل درسا بأنها ستواجه ردا، ولن تمر اعتداءاتها دون عقاب، وإيران لم تكن تقصد أساسا إلحاق خسائر هائلة لدى الكيان الصهيوني ما يمكن أن يفجر حربا بظروف غير مواتية، فليس لإيران حدود مباشرة مع إسرائيل، ومعظم دول المنطقة ستقف إلى جانب إسرائيل، أو لن تتدخل على أحسن تقدير، ويرجح أن تقدم دول التطبيع المعطيات اللوجستية لإسرائيل في حال نشبت الجرب، ومع ذلك هناك هدف رهيف بسيكولوجي، وهو نزع فكرة عدم إمكانية مواجهة وحتى محاربة إسرائيل في المستقبل من عقول الناس.
-التقييم ميدانيا
لنلاحظ أمرين رئيسيين الأول أن إيران لم تستخدم أفضل ما لديها من مسيرات وصواريخ، وهي تدرك تماما أن القوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية مع إسرائيل ستوظف كل قواتها وقواعدها في الشرق الأوسط لإسقاط المسيرات والصواريخ الإيرانية، وهي تريد أن تجرح صورة الجيش الذي لا يقهر من خلال إيصال بعض هذه المقذوفات واقعيا إلى المواقع العسكرية الإسرائيلية، ولهذا جعلت انطلاق المسيرات والصواريخ على دفعات متفاوتة في العدد والإحداثيات لإلحاق الضرر ولو نسبيا. الأمر الثاني هو أنها لا تريد أن تعطي إسرائيل فرصة أن تظهر أمام العالم كضحية إن وقع عدد كبير من الضحايا والدمار، من هنا يمكن القول أن إيران قامت بمسرحية فعلا، ولكنها مسرحية ناجحة إلى حد ما، وليست فاشلة إذا ما قيمت قياسا بالأهداف الموضوعة، كما أنها بذلك لم تخطف المشهد عالميا من أحداث غزة، الذي تتعالى ادانات شعوب العالم للمارسات الإسرائيلية في حرب الإبادة التي تشنها ضد أهالي غزة، ولا يجوز في هذا الظرف بالذات أن تعطى إسرائيل فرصة تصوير نفسها كضحية. أما عن الخسائر المادية فإيران خسرت بضع مئات من ملايين الدولارات ثمن الصواريخ والمسيرات، أما إسرائيل فتكلفت في إطار التصدي وبعض الخسائر على الأرض أكثر من مليار ونصف دولار حسب المصادر الإسرائيلية نفسها.
-أخيرا
وماذا عن حرب التحرير إذن، والتي تعيش ملايين العرب على حلمها؟
للأسف بات هذا الحلم أصعب فقد تعقدت مساراته وبات من الضروري توحيد الصف العربي من جديد، خاصة مع انتشار موجة التطبيع، نحن في ظرف بالغ الحساسية يكاد التضامن العربي فيه أن يصل إلى الصفر، وقد تنبه له فنان الكاريكاتير المبدع الراحل ناجي العلي في رسم يقول فيه أحد الرجال العرب: إذا هجمت إسرائيل على سوريا لازم نهجم، فيرد آخر وضح كلامك: نهجم على مين؟