روسياصحافة وآراء

قراءة في مقترحات بوتين للسلام في أوكرانيا ومنظومة الأمن الجديدة في أوروبا (الجزء الأول)

بقلم د. أيمن أبو الشعر

• العلاقات بين روسيا وأوروبا يجب أن تكون جيدة ولا بد من منظومة أمنية جديدة لأوروبا ولا مكان للقوات الأجنبية في “أوراسيا”

من الواضح أن الرئيس الروسي قدم اقتراحاته الجديدة حول السلام والأمن كرسالة إلى أوروبا على الرغم من أن جوهرها هو تحقيق السلام وإيقاف الحرب في أوكرانيا، حتى أنه ركز بالدرجة الرئيسية على ضرورة أن تكون العلاقات بين أوروبا وروسيا جيدة، جاء ذلك إبان اجتماعه مع قيادة وزارة الخارجية الروسية لتكون كمنصة محتملة لتحسين العلاقات بين روسيا وأوروبا عبر محرك الدبلوماسية الأول، لذا سنقدم قراءة مكثفة لمقترحات الرئيس بوتن في جزئين الأول ما يمس العلاقات مع أوروبا، والثاني ما يتعلق بأوكرانيا والمواقف الغربية من هذه المقترحات.

الإرهاص
تدهور الوضع الأمني في أوربا وبالتالي الأمن العالمي برمته بات حقيقة ساطعة في السنوات العشر الأخيرة، ولكن بوادره بدأت واقعيا منذ مرحلة غورباتشوف الذي أراد ربما تكريس انفراج شامل وتفاعل بين الكتلتين المتحاربتين منذ الحرب العالمية الأولى، لكن النتائج كانت عكسية تماما بسبب سياسته الموالية للغرب، لدرجة أنه حلَّ حلف وارسو، و سحب قواته الضخمة الرادعة من أوروبا الشرقية عشوائيا وبالسرعة الممكنة دون أن يتفق على حل حلف شمال الأطلسي، ذاك أن حلف وارسو أنشيء عام 1955 ردا على انضمام ألمانيا الغربية إلى حلف الناتو، وبالتالي تكريس جبهة مباشرة عسكرية ضد الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية، وكضرورة لمواجهة احتمال العدوان من حلف شمال الأطلسي الذي تأسس عام 1949 ، وكان حلف وارسو يشكل درعا رادعا، ويؤمن حياة آمنة للكتلة الشرقية التي وطدت أسس حياتها الاشتراكية السلمية من خلال المجلس الاقتصادي لدول الكتلة الشرقية، والتي كانت تنسق جميع الأمور الاقتصادية فيما بينها بامتيازات لجميع أعضاء المجلس وكان الاتحاد السوفييتي يشرف ويساعد معظم تلك الدول في الظروف الاقتصادية الصعبة، وكانت ميزانيات هذه الدول وقوتها الاقتصادية دعما إضافيا للعيش بسلام في المعسكرين على مبدأ “كل بيت يعيش ضمن قيمه دون تجاوز على قيم البيت الآخر”، ولكن مجلس التعاون الاقتصادي هذا أيضا سرعان ما تفتت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. وتنامت بعد ذلك منذ عام 1991 التناحرات في دول المعسكر الاشتراكي السابق وراح الناتو يتوسع على حسب دول الكتلة الشرقية، وحتى دول الاتحاد السوفييتي السابق حتى بات الوضع بالغ الخطورة بعد انقلاب عام 2014 في أوكرانيا بمساهمة مباشرة وساطعة من الغرب، وخاصة الولايات المتحدة لذا طرح الرئيس الروسي ضرورة ألا يتوسع الناتو شرقا باتجاه الحدود الروسية، والتوقف عن ضم دول أخرى قرب الحدود الروسية إلى الناتو، وخاصة أوكرانيا التي تنامت فيها النازية الجديدة، وأسفر الأمر عن اضطرار روسيا لشن عملية عسكرية خاصة ضمن أهداف محددة.

 أهمية مقترح بوتين
ليس هناك مبرر لطرح ما جرى في السنتين وبضعة أشهر الفائتة، والتي يمكن اختصارها بأنها وصلت إلى شفا هاوية سحيقة لا تستثني بالفعل نشوب حرب عالمية ثالثة ودمار البشرية، من هنا تتجلى أهمية مقترح بوتن في هذا التوقيت الرهيف جدا كونه لم يقتصر على أوكرانيا، بل إنه يطالب بمنظومة أمنية جديدة لأوراسيا أي أوروبا وآسيا بعيدا عن تدخل الولايات المتحدة الأمريكية التي رأى فيها عاملا لتكريس الهيمنة الإمبريالية، واستمرار استنزاف أوروبا من قبل واشنطن، وأكد على ضرورة إقامة منظومة أمنية جديدة وأن لا مكان للقوات الأجنبية في أوراسيا التي عليها بنفسها أن تحدد مجالات التعاون الأمني المشترك وآلياته وأهدافه لتحقيق الاستقرار والتنمية، ومن هنا فإن بنود مقترح بوتن وإن كانت حول السلام في أوكرانيا وإيقاف الحرب إلى أنه موجه لأوروبا بالدرجة الأولى لتصحو من غفوتها في حضن الولايات المتحدة الأمريكية، ولهذا ركزت المقترحات على استعداد روسيا للحوار مع جميع الدول بشكل جدي بشأن المسائل المتعلقة بالأمن الدولي، وأن حل النزاع يتضمن إلغاء جميع العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، وأن تثبَّت جميع أحكام التسوية على شكل اتفاقات دولية، ثم تأتي عبارته التي توضح تماما أن مقترحه ليس موجها لأوكرانيا وحسب حيث يؤكد أنه: في حال رفض الغرب وأوكرانيا هذه المقترحات للسلام فإنهما يتحملان المسؤولية السياسية والأخلاقية عن استمرار إراقة الدماء.

الظروف والتوقيت
يجيء مقترح بوتن في ظروف نوعية وشبه استثنائية بالنسبة للجميع: لأوكرانيا وأوروبا وروسيا، والمستفيد الوحيد هو الولايات المتحدة الأمريكية كونها تحرك أوكرانيا والدول الأوربية كدُمى تنفذ ما تريده واشنطن خاصة أن تشظيات المعارك يمكن أن تطال أوروبا لا الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن الانعكاسات الاقتصادية ضربت مصالح روسيا والدول الأوروبية التي تصدعت اقتصاداتها بتدمير العلاقات الحيوية التجارية والتعاونية السابقة مع روسيا الاتحادية، وخاصة في مجال الطاقة ونسف أنبوب الغاز الذي كان يغذي الصناعات في ألمانيا وبعض الدول الأوربية الأخرى، والتي باتت مضطرة لشراء الغاز الأمريكي بأسعار تفوق عدة أضعاف أسعار الغاز الروسي، في حين اضطرت روسيا لتوسيع نشاطاتها التجارية والتعاونية شرقا وخاصة مع الصين والهند والدول الاسيوية والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، فكانت العقوبات وبالا على أوروبا التي تبدو معنية في الخلاص من هذا الوضع بعد أن تجاوزت روسيا في الناتج المحلي حسب مؤشر القوة الشرائية حتى ألمانيا واليابان.

المقترح يأتي مباشرة بعد العقوبات الأخيرة
ومع ذلك لا بد أن نأخذ بعين الاعتبار العقوبات الأخيرة التي فرضتها واشنطن على روسيا والتي طالت بورصة موسكو، وعلى الرغم من التصريحات المطمئنة من الكرملين والبنك المركزي الروسي، إلا أن هذه العقوبات التي شملت فروعا اقتصادية واسعة أيضا في آسيا وإفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط، هي سلاح ذو حدين من الواضح أن روسيا وشركاءها سيتدبرون أمورهم مع مرور الزمن من خلال الاعتماد على العملات الوطنية، وبالتالي تخفيف الاعتماد على الدولار إلى أن هذه التراكمات لا شك ستؤذي روسيا وشركاءها أيضا ولو إلى حين، ومن هنا تجيء هذه المقترحات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وعدم الانصياع لمآرب الولايات المتحدة الأمريكية، والسعي لإفهام الدول الأوربية أن كل هذه المعارك العسكرية والاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة على روسيا هي في الواقع ضد المصالح الأوربية، لاستمرار الهيمنة الأمريكية وتكريس أوروبا كتابع مطيع لها.

بعد الانتخابات البرلمانية الأوربية
الجانب الحساس جدا في التوقيت أن مقترحات الرئيس بوتين، والتي تمس أوروبا بشكل مباشر جاءت بعد حدوث انعطاف كبير في أوروبا نفسها من خلال الانتخابات البرلمانية الأوربية والتي أظهرت اجتياح اليمين المتطرف لهذه الانتخابات، ورغم الطابع السلبي الذي يرافق سمة اليمين المتطرف عادة إلا أن فوزه بنسبة عالية من المقاعد في الانتخابات البرلمانية الأوربية يعني ازدياد النفور في أوروبا من الهيمنة الأمريكية، ويعني فيما يعنيه تصدع الأنظمة الموالية بشكل أعمى لواشنطن حتى أن حزب الرئيس ما كرون” النهضة” لم يحظ إلا على نسبة 15% في تلك الانتخابات في حين حصل حزب التجمع الوطني الذي تقوده لوبين المعارضة اليمينة له على أكثر من ضعف أصواته 32% ، وهو ما دفعه إلى حل البرلمان الفرنسي والدعوة إلى انتخابات مبكرة يرجح معظم المحللين أنه لن يفوز فيها، بمعنى أن عاصفة البرلمان الأوروبي تدفع بالرياح نحو أشرعة بوتين القوية فتسير بسفنه نحو أهدافها، وتمزق أشرعة الموالين للولايات المتحدة الأمريكية، ومن هنا يمكن فهم إشارة بوتن إلى تلك الانتخابات.
بهذا المعنى فإن مقترحات الرئيس الروسي تتمحور حول تحقيق السلام في أوكرانيا وإنهاء الحرب لكنها موجهة عمليا إلى الدول الأوربية بالدرجة الرئيسية، وكيفية العبور نحو شط الأمان وفق الرؤية الروسية، الأمر الذي سنتناوله في الجزء الثاني من هذه المقالة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى