صحافة وآراء

البابا فرنسيس: صوتُ الضمير الذي سجدَ لألمِ غزة

د. أروى محمد الشاعر

في الحادي والعشرين من نيسان 2025، خفت صوتٌ من أعذب ما صدح في عالمنا المكلوم، وغاب وجهٌ لطالما حمل في قسماته وقار الأنبياء وجرأة الشهداء، غاب البابا فرنسيس وكم من القلوب انكسرت في الشرق والغرب برحيله، وكم من عيون في فلسطين مسلمة ومسيحية ودّعته بالدمع الصامت، كان صوتًا عالميًا للسلام والرحمة، ومدافعًا لا يكل عن المظلومين والمهمشين، وعلى رأسهم الشعب الفلسطيني الذي وجد فيه نصيرًا صادقًا لقضيته العادلة.

الباب فرنسيس الذي حمل اسم “القديس الفقير” لم يتوّج بالحبرية ليتربع على عرش الفاتيكان، بل ليحمل صليب الإنسانية في وجه الظلم والاستعلاء، منذ اعتلائه الكرسي الرسولي في عام 2013، تميز البابا بتبنيه قضايا العدالة الاجتماعية ودفاعه عن الفقراء والمظلومين، كان حضوره يتجاوز حدود الكنيسة الكاثوليكية، ليصبح رمزًا للرحمة والإنسانية وضميرًا حيًا للعالم ونداءَ عدلٍ في زمنٍ جائر، ومن بين كل الشعوب التي سكنت قلبه، كان للشعب الفلسطيني مكانٌ خاص، شعبٌ ما برح يتعرض للنكبات والنسيان، فوجد في البابا نصيرًا يُسمي الأشياء بأسمائها، لا يهاب لومة لائم ولا زيف ديبلوماسية.

في خضم العدوان الإسرائيلي على غزة، لم يتردد البابا فرنسيس في وصف ما يحدث بأنه “يحمل سمات الإبادة الجماعية” داعيًا المجتمع الدولي إلى التحقيق في الجرائم المرتكبة بحق المدنيين، هذا الموقف الجريء أثار انتقادات من قبل الحكومة الإسرائيلية لكنه أكد التزامه بالحق والعدالة.

في عام 2014، قام البابا فرنسيس بزيارة تاريخية إلى بيت لحم، حيث صلى أمام الجدار العازل معبرًا عن تضامنه مع الشعب الفلسطيني، وفي كلمته قال: “الشرق الأوسط عرف لعقود نتائج مأساوية لصراع طال أمده وأوقع جراحًا يصعب شفاؤها، الوضع أصبح غير مقبول” .

في آخر ظهور علني له خلال قداس عيد الفصح، ورغم تدهور حالته الصحية أصر البابا فرنسيس على توجيه رسالة سلام إلى العالم قائلاً: “أمنيتي الوحيدة لغزة هي السلام”, كانت هذه الكلمات تجسيدًا لرسالته الدائمة في الدعوة إلى إنهاء العنف وتحقيق العدالة.

برحيل البابا فرنسيس، فقد العالم صوتًا شجاعًا دافع عن القيم الإنسانية في وجه الظلم والاضطهاد، صوتاً نصيرًا للفلسطينيين ومدافعًا عن حقوقهم في الحرية والكرامة. ستظل كلماته ومواقفه مصدر إلهام للأجيال القادمة في سعيها نحو عالم أكثر عدلاً وسلامًا.

وداعًا أيها البابا الإنسان، ستبقى في قلوبنا، وسيروي أطفال فلسطين يومًا أن بابا الفاتيكان سجد لألمهم ولم يخذلهم، ستبقى ذكراك غصن زيتونٍ أخضر في أرضٍ لم تيأس من مقاومة الظلم.

بكيناك ليس فقط كرحيل العظماء، ولكن كمن فقد أبا حنونا ذاق طعم الأمان، وما عاد يلقاه في زمن قهرٍ وهوان، كأنك باب من العدل أُوصد، أو وتر في الضمير انقطع، وكأنك جرح فلسطين حين ينزف.

وها أنا أختم رثائي عنك يا قديس النور، الباقي كالشمس فينا، بكلماتٍ من القلب ودمعٍ من شعبٍ عشق وجهك حين صلى لفلسطين، وحين بكى في غزة وكان صوت الضمير:

سلامًا عليكَ وقد قُلتَ غزّةُ حين تَوارى الزُّعماءْ
.وقفت وحدَك لا درعَ حولَك ولا سيفَ غير الدعاءْ
يا مَن وقفتَ وفي القلب صمتُ حزنٍ وكنتَ النداءْ
ركعتَ أمامَ الجدارِ الكئيب فارتجفت السماء
كأنكَ نبيٌّ تعمَّدَ بالحزنِ واغتسلَ بدموع وآهات الأمهات
ورسولُ عدلٍ صلى لآلامِ وعذاباتِ الأطفال الأبرياء
يا من كتبتَ لغزّةَ وصيّتَك قبل رحيل العظماء
نمْ آمنًا فالقلوبُ التي خَبَرَتْ عدلكَ لا تنسى الأنبياء
وبيتُ لحمٍ ستُصلي لكَ في كلَّ ركعةٍ وصباح
وتُشعلُ باسمِكَ قناديل حُبٍ وعرفانٍ في كل مساء
نمْ، فذكراكَ في القدسِ ترتّلُها المآذنُ والأجراس
ونحنُ مسلمونَ ومسيحيونَ نَشهَدُ أنَّك كنتَ رسول الوفاء
وكنت ضميرَ فلسطين وكلَّ المظلومينَ والفقراء
وكنتَ للحقِّ والعدلِ صدىًَ في كل محفلٍ وقداس
نمْ هانِئاً ففي فلسطين قلوبٌ تحفظُ اسمك
وفي بيت لحم، صدى خطواتك لا زال يُسمع
وفي غزة، حيث الدخانُ يملأُ السماء
سيذكر أطفالنا أن البابا سيبقى رمزاً للمحبةِ والسلام.

كاتب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى