
في واحدة من أبشع صور الانتهاك لحقوق الإنسان، رحل الشاب المهندس بشير خالد لطيف بعد تعرضه لتعذيب وحشي داخل أحد مراكز الشرطة، في جريمة لم تُرتكب في الخفاء، بل تحت أنظار من يُفترض أنهم حماة القانون. جريمة لا تُعبّر عن خلل فردي، بل تفضح واقعًا مؤسسيًا مريضًا، وتُجسد وجهًا بشعًا لمنظومة أمنية تتغذى على القمع وتزدهر في غياب العدالة.
إن ما جرى لبشير ليس حالة استثنائية، بل إنه مشهد مألوف في هذا البلد الذي باتت الميليشيات تتنفذ فيه، ويُدار فيه البلد بعقلية السلاح والنفوذ، لا الدستور ولا القانون. في ظل هذا الواقع، يتحوّل المواطن البسيط إلى ضحية دائمة، إلى حطب يحترق في أفران التسلط، دون أن يجد من يُنقذه أو يرفع صوته للمطالبة بإنصافه.
أن يُقتل شاب أعزل داخل مركز أمني، على أيدي منتسبين لجهاز مسؤول عن حمايته، فهذه ليست مجرد جريمة جنائية، بل إدانة كاملة لمنظومة أمنية فقدت شرعيتها، وتحولت إلى أداة ترهيب بدلًا من أن تكون مؤسسة حماية. المؤلم أكثر من القتل نفسه، هو الطريقة المخزية التي تعاملت بها بعض الجهات الرسمية مع الواقعة، عبر التبريرات الساذجة، والمرويات المفبركة، في محاولة لتضليل الرأي العام والتنصل من المسؤولية.
هُنا لا بد من التوقف عند مفارقة مؤلمة تُضاعف من وقع الفاجعة. فالمهندس بشير هو حفيد اللواء نشأت بهجت بكري، أحد أبرز رجال الشرطة في تاريخ العراق، ومن مؤسسي كلية الشرطة العراقية، ورائد من رواد تطوير العمل الشرطي على مستوى الإقليم. لقد ساهم هذا الرجل في بناء أنظمة شرطية في عدد من الدول العربية، من بينها المملكة العربية السعودية، ليبيا، المغرب العربي، واليمن، وله دراسات في علم الجريمة تُدرّس إلى اليوم.
أي مأساة أن يُقتل حفيد هذا الرجل في مركز شرطة داخل الدولة التي ساهم جده في بناء مؤسساتها الأمنية والقانونية؟
أي انحدار أخلاقي وقيمي هذا، الذي يجعل من أبناء هذه البلاد مشاريع ضحايا في مؤسسات وُجدت أساسًا لحمايتهم؟
إن ما حدث لبشير يجب ألا يمر مرور الكرام، لا العدالة وحدها مطلوبة، بل محاسبة شاملة لكل من شارك، سكت، برر، أو تستر، فان هذه جريمة لا تُغتفر، ودم بشير سيكون شاهدًا على عار كل من خان موقعه ومسؤوليته.
صوتنا اليوم يجب أن يكون صارخًا: العدالة لبشير، لا لسلطة الجلادين،
فالصمت هنا ليس حيادًا، بل شراكة في الجريمة.