صحافة وآراء

هل تفجر غرين لاند حربا حقيقية بين الولايات المتحدة وأوروبا

د. أيمن أبو الشعر

• هل يقدم ترامب على ضم غرين لاند بالقوة، معظم الدول الأوربية قلقة خاصة بعد رفعه الرسوم الجمركية على الاتحاد الأوروبي.

تعتبر جزيرة غرين لاند أحد الاحتمالات الجدية لإشعال فتيل مواجهات غير محمودة العواقب بين الولايات المتحدة وأوروبا، وربما تؤدي إلى ظهور تصدعات، جدية في حلف شمال الأطلسي ذاته.

غرين لاند

هي أكبر جزيرة في العالم بعد قارة استراليا، حيث تبلغ مساحتها مليونين و166 ألف كيلو متر مربع، وتمتد بين المحيط الأطلسي والمحيط المتجمد الشمالي، وتغطي الصفيحة الجليدية معظم أراضيها – قرابة أربعة أخماسها- وهي جزء من قارة أمريكا الشمالي، وقد اكتشفها النرويجي إريك الأحمر عام 982 وأطلق عليها اسم غرين لاند، ومعظم سكانها الأصليين من الأسكيمو وقبائل القطب الشمالي، ثم خضعت للنفوذ النرويجي والدانيماركي منذ أوائل القرن السابع عشر، لكن تاريخها المعاصر يبدأ عمليا منذ عام 1814 حين ضمتها الدانمارك نتيجة ضعف النرويج، وإبان الحرب العالمية الثانية غزت ألمانيا الدانمارك، فتكفلت الولايات المتحدة بالدفاع عن الجزيرة ورعايتها، ثم أقامت فيها عدة محطات وقواعد عسكرية، ثم تمَّ الاتفاق بعد الحرب بين الولايات المتحدة والدانمارك بأن يكون الدفاع عن الجزيرة من اختصاص حلف الناتو عام 1951، أي ستساهم الولايات المتحدة والدانمارك في عملية الدفاع، وتحولت غرين لاند بموجب الدستور الدانماركي من مستعمرة إلى مقاطعة دانماركية، ثم حصلت على الحكم الذاتي عام 1979 ، مع الإشارة إلى أن المفارقة المزدوجة ساطعة للعيان فهي جزيرة شبه مهجورة حيث لا يزيد عدد السكان عن 57 ألفا أي أقل بما يقارب مئة مرة من عدد سكان الدانيمارك البالغ قرابة 6 مليون نسمة، ولكن مساحة غرين لاند تقارب خمسين ضعفا من مساحة الدانمارك التي تبلغ 43 ألف كيلومتر مربع.

محاولات الاستحواذ تتصاعد

ظهرت أطماع الولايات المتحدة بجزيرة غرين لاند منذ القرن التاسع عشر وسعت إلى شرائها من الدانمارك منذ نهاية القرن التاسع عشر، لكن هذا الأمر بات جديا بشكل خاص نهاية الحرب العالمية الثانية، فهي وإن كانت أخذت في البداية على عاتقها الدفاع عن الجزيرة إلا أن إحساسا بالغبن ظل يراودها كون غرين لاند جزءا من أمريكا الشمالية وليست أوربية، وهي أقرب بكثير إلى الولايات المتحدة من الدانمارك، فهي تبعد 16 كيلومترا عن كندا التي تُعتبر امتدادا طبيعيا للولايات المتحدة، وقد بنت فيها الولايات المتحدة أكبر محطة رادار في العالم عام 1961 ثم أشادت عددا من القواعد العسكرية بما في ذلك تطوير محطة بيتوفيك الفضائية وهي من أهم القواعد العسكرية الاستراتيجية في العالم، وتنطلق واشنطن بالدرجة الرئيسية من أن هذه الجزيرة تعتبر موقعا استراتيجيا هاما جدا لأمن الولايات المتحدة القومي.

خطوات توحي ببدء التنافر مع أوروبا

تساهلت الحكومة الدانماركية كثيرا بشأن الجزيرة آخذة بعين الاعتبار بعض الظروف الموضوعية حتى جغرافيا ناهيك عن كونها مع الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي، وهي تشعر أن الجزيرة تنفلت من أيديها عاما إثر عام، وعلى الرغم من أن الدانمارك لاتزال مسيطرة على بعض شؤونها الإدارية وحتى المالية من خلال استخدام عملة “الكورونة” الدانماركية، إلا أن غرين لاند بعد حصولها على الحكم الذاتي حصلت أيضا بتشجيع خفي من الولايات المتحدة على حق التصويت لتقرير مصيرها، حيث يشير قانون الحكم الذاتي إلى أن لغرين لاند الحق في الاستقلال، الأمر الذي يحتاج في الواقع إلى تعديل الدستور الدانماركي حتى لا تخلق مواجهة لا مع غرين لاند ولا مع واشنطن، من هنا وافقت الحكومة الدانماركية على الالتزام بنتائج أي استفتاء يطرح مسألة الاستقلال، وتبدو حسب تصريحات المسؤولين في غرين لاند أن الأمور تتجه نحو إعلان الاستقلال ما يتيح للجزيرة تطوير الاستثمارات الأمريكية والكندية بشكل كبير.

كان الرئيس الأمريكي جيمس مونرو أول من أظهر بدايات التنافر بين المصالح الأمريكية والأوربية، وأول من قنْوَن رفض أية سيطرة أوربية استعمارية على أي دولة من دول نصف الكرة الغربي، وشدد في رسالته للكونغرس عام 1823 على عدم السماح بظهور مستعمرات جديدة في الأمريكيتين، وعدم السماح بتوسع المستعمرات القائمة، ثم أعلن الرئيس الأمريكي روزفلت بداية القرن العشرين أن ضعف الدول الأمريكية الصغيرة وممارساتها الخاطئة تُغري الدول الأوربية بالتدخل في شؤون الدول الأمريكية، واعتبر أن الدفاع عن مبدأ مونرو يتطلب التدخل العسكري من أمريكا، وقد حدث ذلك فعلا في الدومينيكان ونيكاراغوا وهاييتي، في غضون ذلك طالب موريس فرانسيس السفير الأمريكي لدى الدانمارك بشراء غرين لاند كتطبيق غير مباشر لمبدأ مونرو عبر تقليص الاستعمار الأوروبي، باعتبار الشراء ليس استعمارا من جهة كما أنه ليس من خارج القارة الأمريكية، ثم ظهرت إشكالات وتجاذبات حول مدى أصوبية بيع غرين لاند التي رغبت بريطانيا كذلك في شرائها.

محاولات الشراء الفعلية

في عام 1941 عرضت الولايات المتحدة على الدانمارك مبلغ 100 مليون دولار تقدمها في إطار سبائك ذهبية لقاء غرين لاند أي ما يعادل اليوم مليار دولار، وأعلنت الأركان الأمريكية عام 1946 أن شراء هذه الجزيرة يعتبر ضرورة عسكرية، وأنها عديمة الفائدة بالنسبة للدانمارك لكنها بالغة الحيوية بالنسبة للولايات المتحدة، وتلاحقت المحاولات لكن الدانمارك أصرت على رفضها، وشددت حتى على ضرورة انسحاب القوات الأمريكية من الجزيرة، الأمر الذي لم تعره واشنطن أي اهتمام، ثم تراجعت الدانمارك ووقعت اتفاقية عام 1961 التي تكرس وجود القوات الأمريكية للدفاع عن الجزيرة التي استُخدمت لمراقبة الغواصات السوفييتية في ممر “جي يو كي” الذي يتيح الوصول إلى شمال الأطلسي، ثم نشطت من جديد الدعوة لشراء غرين لاند في السبعينات انطلاقا من أنها يجب أن تكون ضمن مبدأ مونرو، ثم اعترى الفتور هذه الأطروحات بعد انتهاء الحرب الباردة لتتجدد في القرن الواحد والعشرين مع تنامي اهتمام الدول الكبرى بمجمل موارد القطب الشمالي، وخاصة الاهتمام الروسي والصيني، وتزايد الاعتقاد لدى واشنطن بأن من يسيطر على الجزيرة يسيطر على القطب الشمالي.

جميع الاحتمالات مطروحة

كانت هناك سابقة شجعت واشنطن على فكرة الشراء، وهي أن القيصر الروسي باع منطقة آلاسكا للولايات المتحدة عام 1867 بـ 7 ملايين ومئتي ألف دولار، “الأمر الذي يستدعي مقالة خاصة لهذا الموضوع الشيق”، ثم اعتمدت كولاية رسميا في عام 1953، وحين كانت العلاقات بالغة التوتر بين موسكو وواشنطن في عهد الرئيس بايدن، ظهرت تصريحات توحي باحتمال اشتعال التوتر بشأن استعادة روسيا لهذه المنطقة بما في ذلك تصريحات رئيس البرلمان فولودين، ونائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي مدفيديف، لكن تحسن الأجواء بين البلدين في مرحلة ترامب الحالية دفع بالرئيس الروسي إلى تطمين نظيره الأمريكي بشأن غرين لاند حيث أشار بوضوح إلى أن لدى الرئيس الأمريكي خططا جدية بشأن غرين لاند وهي ذات جذور تاريخية، وأن موسكو تقف على الحياد بشأن جزيرة غرين لاند، ما يتعبر كضوء أخضر من روسيا لمساعي الولايات المتحدة.

في غضون ذلك طرح الرئيس الأمريكي ترامب بكثير من الجدية فكرة ضم غرين لاند إلى الولايات المتحدة حيث كلف إبان فترة رئاسته الأولى مستشار الأمن القومي آنذاك جون بولتون أن يدرس فكرة شرائها، واقترح السيناتور توم كوتون على السفير الدانماركي غيرت لوس شراء الجزيرة عام 2018 ، غير أن كبار المسؤولين في الدانمارك وفي غرين لاند رفضوا الفكرة، إلّا أن الرئيس ترامب في الآونة الأخيرة لمح ولو بشكل غير مباشر إلى احتمال استخدام القوة للحصول على الجزيرة، منوها بأن هناك فرصة لأن يحقق ذلك دون اللجوء لاستخدام القوة، وقد نشطت الدانمارك مجددا لتشديد رفض بيعها، بل وخرجت مظاهرات في الجزيرة نفسها منددة بضم الجزيرة إلى الولايات المتحدة حيث يطمح سكانها إلى الاستقلال وتشكيل دولة ذات سيادة.

فهل يمكن أن يقوم ترامب بغزو حقيقي لغرين لاند التي يعتبر أنها من حق الولايات الأمريكية أكثر بكثير من الدانمارك، وكيف سينعكس مثل هذا الغزو على تحالف الناتو الذي توجب المادة الخامسة على جميع دول الحلف المؤازرة في الدفاع عن أية دولة تتعرض لاعتداء خارجي! طبعا هناك تخريجات عدة أهمها أن الجزيرة يمكن أن تعلن استقلالها قريبا وبالتالي تكون دولة خارج الحلف، وقد أعرب عدد من زعماء الدول الأوربية عن قلقهم إزاء إصرار ترامب على ضم الجزيرة كالمستشار الألماني وكذلك رئيس وزراء النرويج كريستوسون ووزير الخارجية البريطانية لامي حتى أن وزير الخارجية الفرنسية جان نويل رفع اللهجة إلى درجة التحذير من انتهاك وتهديد حدود الاتحاد الأوربي باعتبار غرين لاند لا تزال تابعة للدانمارك، إلا أن ترامب لم يعد يهتم بانزعاج الدول الأوربية التي توترت علاقاته معها مجددا نتيجة رفع الرسوم الجمركية على دول الاتحاد الأوروبي، ولا يستثنى أن ترتفع حدة التوتر بين الولايات المتحدة وبريطانيا أيضا التي كانت تنوي شراء الجزيرة وما زال لديها “حق الشفعة” حسب الاتفاقية الموقعة عام 1917 التي تعطي لبريطانيا الأولوية وحق الحلول مكان المشتري، وشددت على ضرورة استشارتها قبل بيع الجزيرة، واعترضت الولايات المتحدة على الموقف البريطاني، لكن ذلك كان قبل قرن من الزمان عام 1920.

كاتب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى