• قد يحتاج الأمر إلى دبلوماسية خارقة للحفاظ على العلاقات الدبلوماسية بين روسيا ومعظم الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة
حقيقة الواقع المتدني الذي وصلت إليه العلاقات الروسية الغربية عموما -مع بعض التمايز بالنسبة لعدد قليل جدا منها- إلى حافة الانهيار، وبات السؤال المطروح ذا شقين: الأول، متى سيُعلن عن إجراءات حاسمة على صعيد التمثيل الدبلوماسي (التوقيت) والآخر، هل ستصل الأمور حد قطع العلاقات الدبلوماسية أي (الكيفية)، ومثل هذه التساؤلات نضجت إلى درجة لم تعد السلطات الروسية قادرة على إخفاء أو مدارة الوضع المتردي جدا بين روسيا والدول الغربية.
الإعلانات الرسمية تعني “طفح الكيل”
نتيجة تزايد التراكمات التي سنأتي على ذكرها أعلن بيسكوف الناطق الرسمي باسم الكرملين أن روسيا تدرس جميع الخيارات للرد على ما يقوم به الغرب تجاهها، وخاصة تزايد مشاركة دول الغرب الجماعي والولايات المتحدة الأمريكية في صراع أوكرانيا، ومن بين هذه الخيارات كما أوضح بيسكوف، احتمال خفض مستوى العلاقات الدبلوماسية، والتي ستترافق حتما بخطوات أخرى رديفة، وأوضح أن مسألة خفض مستوى العلاقات الدبلوماسية هي ممارسة معروفة تلجأ إليها الدول عندما تواجه تصرفات غير ودية وحتى عدائية نحوها، وأضاف أن ذلك يأتي مع تزايد انخراط الدول الغربية والولايات المتحدة في النزاع في أوكرانيا، خاصة عندما تعلن الدول الغربية جهارا أن هدفها هو إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، وبالتالي فمن المؤكد أن هذه الأوضَاع تحتاج إلى رد من موسكو، إلا أن موسكو حسب بيسكوف لم تتخذ قرارها بعد في هذا المجال، خاصة أن هذا الأمر يتعلق بالسياسة الخارجية للبلد وهو أمر منوط برئيس الدولة.
وكان ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسية قد أكد قبل إعلان الناطق باسم الكرملين بساعات أن موسكو تدرس جديا إمكانية خفض مستوى التمثيل الدبلوماسي مع الدول الغربية كرد على إجراءاتها المناهضة لروسيا، منوّها بأن مثل هذه القرارات تتخذها السلطات العليا، وأن التكهنات قبل اتخاذ القرار قد يؤدي إلى نتائج عكسية، وأن روسيا لم يسبق لها أن بادرت إلى مثل هذه الخطوات أبدا، وأن هناك ضرورة لبقاء قنوات الاتصال على مستوى عالٍ..
تساؤلات جدية
أولا لنسأل ماذا يُشتَمُّ من كلام ريابكوف، أقصد عباراته أن روسيا لم يسبق لها أن اتخذت مثل هذه الخطوات، وأن من الضروري أن تبقى قنوات الاتصال على مستوى عال.. ألا يعني ذلك إعطاء الغرب فرصة للتأمل قبل فوات الأوان، وهي دعوة جدية للغرب بأن لا يقطع هو هذه الجسور من خلال تصرفاته حتى لا تضطر موسكو لقطعها بشكل فعلي كونها باتت بلا جدوى، يفيدنا في هذا المجال ما طرحه أنطونوف السفير الروسي في واشنطن حيث أعلن بوضوح أن الولايات المتحدة تتجنب أية حوارات مع روسيا، بما في ذلك مبادرة السلام التي تقدم بها الرئيس بوتين، وأضاف أنه لا يرى أية فرص لوقف التدهور المستمر للعلاقات بين البلدين، هذا رغم تأكيد القيادات الروسية في أكثر من مناسبة استعدادها للحوار والمفاوضات مع الجميع، والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا هو، هل يريد الغرب أو بشكل آخر هل يعتقد الغرب فعلا أنه قادر عبر أوكرانيا أن يسحق روسيا ويهزمها هزيمة استراتيجية؟
طبعا من الواضح تماما أن العقلاء حتى في الغرب غير مقتنعين على الإطلاق، ولكنها فرصة لاستنزاف روسيا، وإيقاف منافستها في الأسواق العالمية طالما أن الثمن البشري تدفعه أوكرانيا بمقتل جنودها، حيث ارتفعت وتيرة مقتل الجنود الأوكرانيين وبات يقارب 2000 عسكري يوميا، واقتصادها بات مدمرا، إذ ستنهار أوكرانيا كدولة خلال أسابيع قليلة إن تأخرت المساعدات المالية التي وصلت حد الاستعانة بالدول الغربية لدفع رواتب الموظفين والجنود.
بوابة الجحيم
كل هذه الأمور تعني التجاوب مع تدهور العلاقات إلى حد يفوق مرحلة الحرب الباردة التي كانت في أوجها حسب معظم المعطيات بين عامي 1947 و 1953 نتيجة الخلافات الحادة على بنية العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكننا نعتقد أن الحرب الباردة استمرت ولو بمؤشرات صعود وهبوط متباينة، وحرب فييتنام وسباق التسلح بعض تجلياتها، استمرت واقعيا حتى مرحلة غورباتشوف حيث هدأت استسلاما من موسكو للرغبات الغربية، ثم عادت لتتصاعد بشكل متسارع منذ عام 2014 إثر الانقلاب في أوكرانيا، وكانت مرحلة الحرب الباردة تمر بفترات انفراج يُهدئ من التناحر ولو قليلا، لكن المواجهات والتناحرات بين روسيا والغرب في صعود مستمر منذ عام 2014 ووصل مرحلة ما قبل الانفجار هذا العام، رغم أن القوى العظمى كانت تلجأ إلى مراحل التهدئة لعلمها الأكيد أن أي صدام بين الدول النووية سيعني فتح بوابة الجحيم على العالم كله فماذا جرى الآن؟
الذي جرى هو أن الدول الغربية تقامر على مدى صبر روسيا، وكونها لن تستخدم الأسلحة النووية، ولكن هذا صحيح إن لم يكن هناك تهديد لوجودها، والغرب يعلن صراحة أنه يريد سحق روسيا (هزيمة استراتيجية) لذا جاءت الإشارات أكثر من مرة من موسكو بأن روسيا لا تهدد باستخدام السلاح النووي، ولكنها لن تمتنع عن استخدامه حين تصل الأمور إلى تهديد وجودها، وهزيمتها الاستراتيجية تعني دمارها كدولة، من هنا يمكن فهم تصريحات غريشكو نائب وزير الخارجية الروسية بأن جميع تصرفات حلف شمال الأطلسي تؤكد أنه يحضر للصدام مع روسيا بعد أن أطلق حربا هجينة ضدها. ولم يكن صدفة تأكيد الرئيس بوتن على أن روسيا تتابع تطوير ثالوثها النووي ويقصد السلاح النووي البري والبحري والجوي، فهل قادة الغرب مستعجلون للتحليق نحو الرفيق الأعلى عبر الشعاع النووي! المشكلة المأساوية الحقيقية أنه إن وقعت الواقعة فلن يكون هناك أحد يترحَّم على أحد، بل ولن يكون هناك من ينقل خبر فناء البشرية! ولن يكون هناك من سيستمع لهذا الخير!