زيارة رئيس الوزراء الهندي إلى موسكو تحمل نكهة العلاقات المتنامية مع الصين
بقلم د. أيمن أبو الشعر
• الخلافات بين الهند والصين وصلت حد الاشتباكات المسلحة قبل حين، لكن موسكو وشانغهاي وبريكس تهدئ الأمور بين بكين ونيودلهي
لا شك أن العلاقات الروسية الهندية الصينية حالة تستدعي الدهشة والتساؤل، لمن يا ترى يعود الفضل في جمع قطبين متناحرين بدا لفترات زمنية متعاقبة أنهما كالسالب والموجب في المغناطيس لا يمكن أن يلتقيا، وخاصة في إطار تعاون مع قطب رئيسي ثالث بالغ الأهمية في المسار نحو عالم جديد متعدد الأقطاب وهو روسيا، الأمر الذي يبدو جليا في زيارة رئيس وزراء الهند مودي إلى موسكو، ولقائه بالرئيس بوتين الذي يؤكد دائما أن الصين هو الشريك الاستراتيجي الأول لروسيا الاتحادية فأين يقبع السر إذن؟
حيثيات الزيارة
تجيء الزيارة بعد قمة شانغهاي التي لم يحضرها رئيس الوزراء الهندي ما فتح مجالا لتعليقات الخصوم بأن في ذلك إشارة إلى استمرار التنافر مع الصين، لكن حقائق أخرى سنوردها لاحقا تجعل هذا الاحتمال غير ذي أهمية، فقد أبدى الرئيس الروسي اهتماما كبيرا بزيارة ضيفه الهندي ناريندار مودي لا يقل أبدا عن اهتمامه بالزعيم الصيني شي جين بينغ، فقلده منذ اليوم الأول للزيارة في قصر الكرملين وسام القديس أندراوس – أندريه، وهو أرفع أوسمة الدولة الروسية، وأوضح الرئيس الروسي أن هذا الوسام يقدم للشخصيات البارزة في الدول الأجنبية لقاء خدماتهم الفذة، ولا شك أن من بين هذه الخدمات الفذة تطوير التعاون الاقتصادي في الظروف العصيبة لروسيا وعدم التجاوب مع العقوبات الغربية، وأشار الرئيس بوتين إلى أن تقليد مودي هذا الوسام هو تقدير لإسهاماته في مجال التعاون والتفاهم بين الشعبين الروسي والهندي خلال مسيرته السياسية منذ أن كان وزيرا للخارجية، مساهمته التي تحمل طابعا استراتيجيا، وتأكيدا على استمرار هذا التعاون نوعيا زار الرئيس الروسي بصحبة ضيفه الهندي جناح “روس آتوم” بمعرض روسيا في موسكو حيث تم شرح المجالات الريادية التي تألق فيها عملاق الطاقة النووية الروسية في مجالات الطب والفضاء، حيث هناك آفاق كبيرة واعدة للتعاون بين البلدين في المجالات النووية خاصة أن العديد من الطلاب الهنود يدرسون في هذه المجالات، وقد أكد مودي نفسه على مدى تعزيز التعاون بين موسكو ونيودلهي على مختلف الصُعُد.
تفاهمات واسعة
بدا واضحا أن لأوكرانيا أولوية في المباحثات أيضا خاصة أن بكين تقدمت بمساع لحل الأزمة بين موسكو وكييف، ولا تريد الهند أن تبدو خارج هذا المسار، فقد تم تناول الأزمة الأوكرانية في حوار الزعيمين، وأعرب رئيس الوزراء الهندي مودي عن استعداد بلاده للمساعدة في إحلال السلام في أوكرانيا، جاء ذلك في مستهل المحادثات الثنائية الرسمية في الكرملين.
وتبين خلال هذه المباحثات أن حجم التجارة بين البلدين في العام الفائت قد زاد بنسبة 66% ما يشير إلى توجيه قسم كبير من البضائع الروسية التي حاصرها الغرب إلى الهند، كما أن التعاون بين روسيا والهند في مجال الوقود والطاقة ساعد في الحفاظ على الاستقرار في أسواق الطاقة العالمية وتهميش العقوبات الغربية، وكان بديهيا أن يشيد الرئيس الروسي بهذه العلاقات ويبرز أهمية كونها استراتيجية منوها بأن روسيا تحتفل هذا العام بمرور 77 عاما على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، الأمر الذي يعطي ثماره على الساحة الدولية.
العمالقة معا
يتبدى ذلك بوضوح في كون الهند عضو رئيسي في أهم منظمتين عالميتين منافستين للمنظمات الاقتصادية الغربية كمجموعة السبع الكبرى مثلا، فالهند والصين وروسيا أعضاء رئيسيون في منظمة شانغهاي، والتي تعنى بالجانب الأمني إلى جانب المجال الاقتصادي وكذلك في مجموعة بريكس التي تساهم بنسبة تزيد عن خمسين بالمئة في النمو العالمي ويقارب ناتجها المحلي عشرين تريليون دولار، والعمالقة الثلاثة معا أيضا في منظمة شانغهاي التي بات الاهتمام فيها أوسع من أية مرحلة سابقة، وقد تطورت جديا واتسعت بانضمام دول جديدة ما يعمق عمليا من الدور الفعال على المسرح العالمي، حيث يبدو التعاون وثيقا جدا حتى داخل الأمم المتحدة هناك يبدو التنسيق واضحا بين العمالقة الثلاثة من خلال انسجام المواقف تجاه القضايا الدولية والإقليمية وعبر التصويت، وهكذا يبدو واضحا من خلال مواقف الزعماء الثلاثة مدى ما يمكن أن تلعبه هذه الدول كثالوث عملاق عبر منظمتي بريكس وشانغهاي على المسرح الدولي، ولكن هل جميع الأمور على أحسن ما يرام بين بكين ونيولدلهي؟
موسكو تهدئ البركان
نعم هناك شوائب حقيقية وخطيرة في تاريخ العلاقات الصينية الهندية نتيجة خلافات حادة على الحدود، والتي أسفرت عن صدامات عسكرية بين البلدين بدأت عام 1962 وذلك بسبب النزاع على مناطق في جبال هيمالايا، وخاصة إقليم “أكساي تشين” أسفرت المعارك عن سقوط ضحايا من الجانبين فيما عرف بالحرب الصينية الهندية والتي انتصرت فيها الصين، عدا عن تهديد السلم العالمي عموما فالحديث يدور عن بلدين يتجاوز عدد سكانهما آنذاك ثلث تعداد سكان العالم، وازداد الأمر خطورة بعد أن امتلكت الصين عام 1964 السلاح النووي، ثم امتلكت الهند السلاح النووي عام 1974 وظلت الخلافات الحدودية قائمة، حيث اندلعت اشتباكات جدية عام 2017 عندما أنشأت الصين طريقا في هضبة “دوكلام” ثم انتهى الخلاف بالمفاوضات بعد أن ظل التوتر قائما أكثر من شهرين، ومن جديد نشبت اشتباكات بين الجانبين عام 2020 في خلاف حول هضبة “لاداغ” وبناء الهند هذه المرة طريقا لتطوير البنى التحتية في هذه المنطقة، أي أن الخلافات الحادة ظلت حتى الآونة الأخيرة بين الجانبين..
الدراهم كالمراهم
عوامل عدة موضوعية وذاتية ساهمت في تخفيف حدة التوتر، وخاصة تصاعد الاهتمام بالجانب الاقتصادي، والتنبه إلى العامل الديموغرافي حيث تجاوز عدد سكان الهند عدد سكان الصين التي بلغ عدد سكانها مليار و 426 مليون نسمة، في حين بلغ عدد سكان الهند مليار و 429 مليون نسمة، كما حدثت نهضة نوعية في الصين جعلتها تحتل المركز الثاني في أكبر اقتصادات العالم والهند في المركز الخامس.
ومع ذلك لا بد من الإشارة إلى أن هذه المعطيات استندت إليها موسكو في رأب الصدع بين البلدين عبر تشكيل تحالف اقتصادي أمني معهما في منظمة شانغهاي، وتحالف اقتصادي تعاوني في مجموعة بريكس لتوجيه قوى الصين والهند مع قوة روسيا والدول الكبرى الأخرى كالبرازيل وجنوب إفريقيا باتجاه مشروع يشكل حالة جذب حقيقية لجميع الأطراف المنضوين في هذين التنظيمين العالميين، ولا تزال موسكو تلعب دور المهدئ، والمنبه إلى الجوهر وهو الفائدة المشتركة والسعي لتحقيق عالم متعدد الأقطاب واعتماد المنطق البراغماتي في حل الإشكالات الناشئة لا قوة الرصاص!
وقد تطورت العلاقات الاقتصادية بين الصين والهند رغم الخلافات التي بدت ضئيلة أمام التطور النوعي للتعاون الاقتصادي حيث ارتفع حجم التجارة الثنائية بين البلدين من 38 مليار دولار عام 2007 إلى 114 مليار دولار عام 2022 ، ثم غدت الصين أكبر شريك تجاري للهند إلى جانب الولايات المتحدة على قدم المساواة، ورغم فعالية المثل القائل أن “الدراهم كالمراهم” تعالج الإشكالات الصغيرة لكنها أحيانا تثير قلقا متزايدا من المشاريع الكبرى التي تطرحها الصين، كمشروع الحزام والطريق للتعاون المالي، وتنفيذ مشاريع البنية التحتية في البلدان المحيطة بالصين والهند بما في ذلك مع باكستان حيث يمر الطريق الاقتصادي الصيني الباكستاني في هذا المشروع عبر منطقة كشمير التي تخضع لسيطرة باكستان وتطالب الهند بها، اللوحة كما ترون لا تخلو من إشكالات لكن المنطق البراغماتي ما زال المهدئ الأول، وخاصة عبر التعاون العملي في كل من شانغهاي وبريكس، والعلاقات الثنائية الودية والتي تظهر في زيارة مودي الأخيرة إلى موسكو.