هناك مَن يلجأ إلى اختزال الهجمة الاستعمارية الصهيوغربية على منطقتنا العربية والشرق أوسطية المتواصلة منذ ما يربو على قرن من الزمن، ويغالط الحقيقة بتسميتها الصراع العربي ـ الإسرائيلي، حيث الصراع يحتاج إلى طرفيْن متجاوريْن في حين ما جرى اعتداء لغريب على المنطقة برمّتها ومن خارجها. وهناك مَن يذهب أقل من ذلك، فيقزّم الأمر إلى ما يتكرر تسميته صراعاً أو نزاعاً، ولكن فلسطيني ـ إسرائيلي. ثمّ هناك مَن يختصر كل ما حصل ويحصل قبل وبعد “طوفان الأقصى” من إبادة وتطهير عرقي وجرائم ضدّ الإنسانية وتدمير شامل، ويُسمّيه حرباً على غزة، أو حرباً على حركة “حماس”، أو حتى عِراك شخصي بين نتنياهو والسنوار، وكأنّنا أمام نِزالٍ في حلبة ملاكمة يقوم بتحكيمها من وراء البحار والمحيطات “شخصٌ” قابع فيما يُسمى “البيت الأبيض” يُدعى بايدن… ولعلّ مَن يَختزل أو يُقزّم أو يُشخصن ما جرى ويجري في منطقتنا، لا بُدّ أن يكون ببغائيَّ الهوى، أو مصاباً بعمى في البصر والبصيرة يحول دون دقّة التشخيص وصحّة الاستنتاج، وذلك إن أحسنّا الظن. أو .. أو..؟!
نسوق هذا الحديث ونحن نُشاهد ونسمع ما يُبثّ من تحليلات واستنتاجات كثير من “النُّخَب” المُتَلَقِّبة بشتى المُسمّيات والألقاب والأوصاف.. وفي هذه العُجالة، نكتفي بالضجيج المتعدّد المصادر والاتجاهات حول شخصية نتنياهو الجدليّة، حيث يوحي بعض أركان الإدارة الأمريكية أحياناً، بحذر وخجل شديديْن، بكونه العقبة الكأداء في “طريق” وقف حرب الإبادة والتدمير الجارية على قدم وساق في قطاع غزة على وجه الخصوص، وكالعادة مقابل التكرار الصاخب والمُملّ بتحميل “حماس” المسؤولية أولاً وعاشراً. كما تُجمِع أطراف المعارضة الإسرائيلية بتلاوينها المختلفة على شخصنة الأمر برمته بشخص نتنياهو “الفاشل”، وحتى عائلات الأسرى الصهاينة في غزة ومَن لفّ لفّهم، والذين يجوبون الشوارع طولاً وعرضاً ويحتشدون في الميادين والساحات، يُحمّلون نتنياهو شخصيّاً عدم إعادة أسراهم إليهم بوضعه العصُيّ في دواليب أية صفقة مقترحة بهذا الخصوص…
يبدو جليّاً كأنّنا أمام حملة علاقات عامّة لتبييض ما يستحيل تبييضه مما لحق بالكيان الإسرائيلي المجرم من أضرار جسيمة متعاظمة، حيث انكشفت أكاذيبه التاريخية وصانعيه وفي مقدمتها أكذوبة “الضحية” الكبرى أيّما انكشاف، وفضحت مجازرهم الوحشية غير المسبوقة حتى في حقبة النازية الألمانية والفاشية الإيطالية وجههم الحقيقي القبيح أصلاً.. وذلك من خلال محاولة تقديم نتنياهو “قرباناً” أو “كبش فداء” وعنصراً شاذّاً، بغية الحفاظ على استمرار المشروع الاستعماري الغربي القتالي الاستيطاني التوسّعي الإحلالي، ليس في فلسطين وحدها بل وعلى مساحة المنطقة العربية والشرق أوسطية برمّتها، وربّما أبعد من ذلك بكثير.
صحيح أن نتنياهو قد بالغ في الحفاظ على مصالحه وعائلته الشخصية، وهو في ذلك لا يختلف عن كثير من قادة الضّلال في هذا العالم الظالم قادته وبعض أهله.. ولكن الأكيد أنه يعبّرأصدق تعبير عن الشذوذ البنيوي المتأصل في كيانه، بل صورة طبق الأصل للصهيونية بشتى مسمّياتها العلمانية واللاهوتية، ويُمثّل بحق “مرآة” الكيان الصهيوني الغاصب. ولعل استحضار بعض النماذج المعبّرة عن هذا الكيان يكفي للدلالة على ذلك، ناهيك عن أحدث استطلاعات “الرأي” الإسرائيلية التي تُجمع بغالبية مطلقة على تأييد نهجه الإجرامي ولاءاته المعروفة تجاه حقوق الشعب الفلسطيني الثابتة والمشروعة، في حين يرفض بعضها شخص نتنياهو لاعتبارات مصلحية خاصة، وذلك في سياق تشوّهات هذا الكيان المشهودة له بجمع الشيء وضدّه معاً.
فها هو مناحم بيغن البيلاروسي المولد ومعلّم نتنياهو وقدوته، المهاجر إلى فلسطين في أربعينيات القرن العشرين الماضي، يقول في خطاب ألقاه في الكنيست الإسرائيلي، كما نقله “أمنون كبيليوك” تحت عنوان “بيغن والحيوانات” ونشرته “نيوستيتسمان” يوم 25/6/1982 أثناء غزو لبنان، وبعد ما يقارب أربع سنوات على منحه جائزة نوبل للسلام عام 1978 إلى جانب الرئيس المصري أنور السادات: “اليهود أسياد العالم، نحن اليهود آلهة على هذا الكوكب، نحن نختلف عن الأجناس السّفلية مثل اختلافهم عن الحشرات. في الواقع إن الأجناس الأخرى مقارنة مع جنسنا تعتبر بهائم وحيوانات، أو ماشية في أحسن الأحوال. الأجناس الأخرى هي كالفضلات البشرية. قُدِّر لنا أن نحكم الأجناس السفلية، وسوف يحكم قادتنا في مملكتنا الدنيوية بقبضة من حديد، وستقوم الشعوب بلعق أقدامنا وخدمتنا كالعبيد..”. وللتذكير فإن هذا “المعلِّم القدوة الملهِم” قاد منظمة “أرغون” التي ارتكبت مجزرة دير ياسين يوم 17/9/1948 كما اعترف في كتابه “التمرّد .. قصة الأرغون”، وفي اليوم ذاته قامت باغتيال ممثل الأمم المتحدة رئيس الصليب الأحمر السويدي الكونت برنادوت بالتعاون مع منظمتي “شتيرن” ـ اسحق شامير ـ و “هاجاناه” ـ بن غوريون ـ وذلك بعد أربعة شهور على إعلان إقامة الكيان وإعلان حكومته حلّ جميع تلك “التنظيمات العسكرية”، فضلاً عن نسفها مقرّ قيادة القوات البريطانية في فندق الملك داود المقدسي..؟!
وها هو إرئيل شارون نموذج نتنياهو وأيقونته الأحدث، تنقل عنه إذاعة “صوت إسرائيل” 3/10/2001 بعد أقل من شهر على أحداث 11/9/2001 حديثه لشمعون بيرس صراحة: “كلّما نفعل شيئاً تقول لي أمريكا سوف تفعل ذلك أو ذاك. أريد أن أقول لك شيئاً واضحاً جداً: لا تقلق بشأن الضغط الأمريكي على إسرائيل، فنحن الشعب اليهودي نتحكّم بأمريكا والأمريكيّون يعرفون ذلك”. وأوردت صحيفة نيويورك تايمز 14/4/1983 على لسان رئيس الأركان الإسرائيلي رفائيل إيتان أنه: “عندما نقوم باستيطان الأرض كل ما يستطيع العرب القيام به الهرولة مثل الصراصير المخدَّرة في زجاجة”..؟!
وهذه عيّنة من أقوال الحاخامات الصهاينة، حيث يذكر الحاخام موريس صموئيل في الصفحة 145 من كتابه “أنتم غير اليهود”: “نحن اليهود، نحن المدمِّرون، سوف نبقى مدمِّرين إلى الأبد، مهما عملتم فإن ذلك لن يكفي احتياجاتنا ومطالبنا، سوف ندمِّر إلى الأبد لأننا نريد العالم لنا”. في حين نقلت صحيفة نيويورك ديلي نيوز 28/2/1994 عن الحاخام ياكوف بيران قوله: “مليون عربي لا يساوون ظفر يهودي واحد”..؟!
وكي تكتمل الصورة، يكفي أن نشير إلى ما أوردته الكاتبة الأمريكية غريس هالسل عام 1986 في كتابها “النبوءة والسياسة” وعنوانه الفرعي “الإنجيليّون في طريقهم إلى الحرب النووية”، إذ قالت: “إنّ النبوءات التوراتية تحوّلت في الولايات المتحدة الأمريكية إلى مصدر يستمدّ منه عشرات الملايين من الناس نسق معتقداتهم، ومن بينهم أناس يُرشّحون أنفسهم لانتخابات الرئاسة الأمريكية..”. وكان المصرفي الصهيوني بول ولبرج قد خاطب مجلس الشيوخ الأمريكي أثناء إدلائه بشهادته يوم 17/2/1950 قائلاً: “سيكون لدينا حكومة عالمية إن شئتم ذلك أم أبيتم، والسؤال الوحيد هو: هل أنها سوف تتكوّن عن طريق الاحتلال أم بالاتفاق”..؟!
إن هذا الغيض من فيض مماثل ـ وما أكثره ـ يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن العالم أجمع أمام خطر مُحدق لا يُبقي ولا يَذر، وإذا كانت النازية قد أودت بحياة عشرات الملايين وأضعافهم من الجرحى والمعاقين ودمار هائل عابر للحدود، وذلك انطلاقاً من فكر قومي نازي استند إلى تفوّق الجنس الآري والعرق الألماني، وتقسيم البشرية إلى 13 مرتبة كما ورد في كتاب “كفاحي” لأدولف هتلر، فإن البشرية اليوم في مواجهة ما هو أكثر بشاعة وكارثية يتخذ من خرافات لاهوتية مزعومة ومفبركة رداءً وقِناعاً له.. وما يحدث في فلسطين عموماً وغزة على وجه الخصوص حُجّة على الإنسانية جمعاء لمَن أراد أن يستفيق ويحافظ على إنسانيته قبل فوات الأوان حيث لا ينفع حينها ندم النادمين ولا تخاذل المتخاذلين.