منذ بداية قضية فلسطين على الساحة العربية ، وقد تصدينا لها كعرب منذ البداية على جميع الأصعدة وكل الجبهات؛ فعلى المستوى الشعبي كانت ثورات الشعب الفلسطيني احتجاجا على سماح بريطانيا بتدفق اللاجئين من عام 1936 وعام 1939، وتصدينا لها سياسيا برفض قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لسنة 1947 ، تقسيم فلسطين ورفض الإعتراف بإسرائيل وبشرعيتها، وتصدينا لها عسكريا لمنع قيامها فى حرب 1948، ولما تعثرنا في تحقيق ذلك تتابعت الحروب في 56 و67 وحرب الاستنزاف وحرب 73 واستمرار الحرب ممن رفعوا سلاح المقاومة في فلسطين وفي لبنان وآخرها الملحمة الدائرة فى غزة.
تصدينا لها اقتصاديا بالمقاطعة التي ظلت قائمة لسنوات طويلة حتى تخلينا عنها بعد معاهدات السلام والضغوط الإمبريالية، لكنها عادت مجددا من الشعوب الواعية التي باتت تقاطع سلع الشركات التي دعمت بشكل فج الجيش الإسرائيلي وهو يقتل الشعب الفلسطيني الأعزل.
تصدينا لها حتى فنيا بمجموعة من الأناشيد الرائعة مثل قصيدة فلسطيني التي كتب كلماتها علي محمد طه، ولحنها وغناها محمد عبدالوهاب، ونشيدي زهرة المدائن، وجسر العودة اللذين غنتهما فيروز من كلمات وتلحين الأخوين الرحباني.
إلا أننا للأسف تخلفنا عن التصدي لجبهة أراها عظيمة الأهمية في حربنا ضد إسرائيل والصهيونية العالمية ،وهي الجبهة السيكولوجية. لعل من أسباب تغول الصهيونية هي إدراكها لأهمية البعد السيكولوجي فاستغلته إلى أقصى الأبعاد للنفاذ إلى العقل الباطن واللاوعي لشعوب الدول القوية المسيطرة، وكان من أهم أدواتها فى تحقيق ذلك العالم النفسي Idward Barney، ابن شقيقة مؤسس علم النفس سيجموند فرويد مؤسس علم العلاقات العامة.
لعل أول ما اهتمت به الصهيونية هو تحطيم القناعة المسيحية بمسؤولية اليهود عن صلب السيد المسيح، وهي القناعة التى كانت سببا في إزدراء اليهود وكراهيتهم في الدول المسيحية، ونجحوا في ذلك ونجح المسعى الصهيوني عن طريق العمل المنهجي الأكاديمي المدروس سيكولوجيا وسوسيولوجيا.
التحرك السياسي المكثف عندما برأ بابا روما في ستينيات القرن الماضى اليهود من دم المسيح مؤكدا أن يهود العصر الحالي لا يمكن تحميلهم وزر خطيئة أجدادهم. أثارت هذه الفتوى التي صدرت متزامنة مع الفاتيكان الثانى أقامه البابا لما ذكره بضرورة تطوير الكنيسة الكاثوليكية كثيرا من اللغط خاصة وأنه يتعارض مع ما جاء في سفر التكوين عن الخطيئة الأولى التى يعاقب عليها الإنسان مدى الحياة وهى عصيان آدم لربه وخروجه من الجنة، فإن كنا نحاسب على معصية آدم ألا يحاسب اليهود على قتل المسيح؟!
خطوة هامة في إقتحام اللاوعي المسيحي ولكن على قدر أهميتها فهي أصغر من حدث كبير وقع قبلها بأكثر من ثلاثين سنة وهو حملة الإضطهاد والتطهير العرقي التي تعرض لها اليهود في ألمانيا والبلاد الأوروبية التي وقعت أثناء الحكم النازي والحرب العالمية الثانية وهو ما أطلق عليه المحرقة. جعلت الرعاية الصهيونية من المحرقة بقرة مقدسة غير قابلة للمراجعة أو التحقق من أبعادها إلى درجة تعرض من يراجع الأرقام المطروحة بالمراجعة للعقاب والسجن مثلما حدث للمفكر الفرنسي روجه بارودي، وجعلت منها دافعا لإحياء وعد بلفور بتأكيد ضرورة إنشاء وطن قومي لليهود يجدون فيه الحماية والأمان.
لم تمر سوى ثلاث سنوات على نهاية الحرب العالمية الثانية حتى تحقق الحلم الصهيوني بقيام دولة إسرائيل واستمرت الحملة السيكولوجية الممنهجة لاختراق اللاوعي الجمعي لتجميل الدولة اليهودية، واستخدمت أهم الأسلحة المؤثرة وهي مؤسسة هوليوود والسينما العالمية، فصدرت مجموعة من الأفلام التي كرست لها ميزانيات هائلة وجند لها أكبر نجوم السينما من فيلم الوصايا العشر بطولة بول براينر وتشارلتون هستون، وفيلم الخروج Exodus من بطولة بول نيومان، وفيلم عازف البيانو، وحوالي عشرين فيلما عن الطفلة الهولندية آن فرانك، وفيلم قائمة شندلر، وتوجت كل هذه الأفلام بجوائز الأوسكار.
نجحت هذه الحملة في إقناع العالم أن اليهود قوم مسالمون مظلومون مضطهدون، ولعل ما ساعد هذه الحملة الأسلوب العربي في مواجهتها على الصعيد الفني بأغانٍ وأناشيد كان أكثرها فجاجة ما غنته فايزة كامل «صاروخ على تل أبيب» وما غناه محمد سلمان مناديا علم العروبة بقوله «لبيك واجعل من جماجمنا لعزك سلما»، والمجموعة وهي تغني «أبو خالد يا حبيب بكرة هندخل تل أبيب».
بعد حرب 67 كان لابد من تغيير الرسالة بعد أن إنتصرت إسرائيل انتصارا كاسحا على العرب، ولم تعد صورة الراعي الصغير داوود الأعزل إلا من مقلاعه أمام جالوت المارد الجبار المدجج بالسلاح والدروع تجدي، فتحولت الآلة الدعائية النفسية لتقديم إسرائيل على أنها الدولة المتقدمة المتحضرة واحة المدنية والديمقراطية في محيط متوحش متخلف تُبرز نبوغ الشعب اليهودي بنسبة الحاصلين على جوائز نوبل من اليهود، ونسبة اليهود من النابهين في الفنون والعلوم والإعلام، والترويج لإسرائيل الدولة الديمقراطية الوحيدة وسط محيط قمعي والتغطية على الحقيقة بأن غير اليهود يعيشون فيها في جو قمعي ظالم مهين، ولعل مهارة الحس السيكولوجي للحملة الصهيونية أدركت أن هذا هو حال الديمقراطية الغربية كلها خاصة الولايات المتحدة التى عاش فيها السود والآسيويون والسكان الأصليون والمكسيكيون في دونية مزدراة.
لعلنا نعيش هذه الأيام فى مرحلة فارقة في صراعنا مع الصهيونية وإسرائيل، فبعد أحداث غزة الأخيرة التي رفعت الستار عن الوجه القبيح لإسرائيل والجرائم البربرية التي ارتكبتها وما زالت ترتكبها لقتلها عشرات الآلاف من المدنيين العزل نسبة كبيرة منهم من النساء والأطفال، وانتهاجها المنهج النازي الهتلري في الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وأثر ذلك على المجتمع الدولي الذي دفع العديد من الدول إلى التحرك ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، وردود الفعل الشعبية في الدول التي كانت حليفة تقليدية لإسرائيل وتدعمها دون قيد أو شرط فانطلقت المسيرات والمظاهرات تندد بها وبجرائمها في الجامعات وبين الطلبة والأجيال الشابة، وارتفاع أصوات إعلامية وشخصيات عامة وفنية ضدها.
كل ذلك يجعل الجو ملائما لشن حملة عربية مدروسة تنفذ على يد خبراء في مجال علم النفس وعلم الإجتماع والإعلام لمواجهة جبهة إسرائيل السيكولوجية لإقتحام العقل الباطن واللاوعي الجمعي لأوروبا لتطهيره من الأوهام التي تعرض لها، وإسقاط ورقة التوت التي تخفي عورة إسرائيل والصهيونية وجرائمهما في حق الإنسانية وأعمال الإبادة والتطهير العرقي التي قامت بها من أيام اللد والرملة وقبية وصابرا وشاتيلا، وقتل الأسرى المصريين العزل في سيناء، وقتل الطفل محمد الدرة، والناشطة الأمريكية راتشيل كوري، والاغتيالات التي قام بها جهاز الموساد، وأكذوبة الديمقراطية الإسرائيلية التي يتخفى وراءها نظام أبارتايد عنصري إرهابي كريه.
الفرصة مواتية لنتحرك جميعا كعرب ، بأسلوب علمي مدروس ولا نضيع هذه الفرصة.