• حول ماذا ستجري المفاوضات؟ وأوكرانيا تود تحرير المناطق التي تعتبر أن روسيا احتلتها، وبوتن لن يسمح بالمساس بها باعتبارها جزءا من روسيا
لو تفحصنا تصريحات كبار المسؤولين الأوكرانيين وخاصة في الآونة الأخيرة لوجدنا أنها تشير إلى تردد واضح في التعبير عن المواقف الحاسمة بشأن مصير أوكرانيا الأمر الذي يصل أحيانا إلى حد التناقض الصارخ.
فقد أعلن وزير الخارجية الأوكراني “دميترو كوليبا” إبان لقائه مع نظيره الصيني “وانغ يي” أن أوكرانيا مستعدة وراغبة بإجراء مفاوضات مع روسيا على أن تكون عقلانية وتحمل أهدافا عملية وتهدف إلى تحقيق سلام عادل ودائم، وهو موقف يختلف تماما عن الموقف الذي اختطته كييف منذ انسحابها من مباحثات استانبول التي كادت أن تنهي النزاع في مهده تقريبا، وذلك لتبنيها الموقف الغربي والذي شجعت عليه بريطانيا آنذاك، ودفعت أوكرانيا مئات الآلاف من القتلى ثمنا له، ولكن “كوليبا” حتى في تصريحاته هذه من “بكين” ترك الباب مواربا، ويبدو أنه ذكر عبارته هذه إرضاء لسياسة الصين التي شددت على ضرورة الحل السياسي، وقدمت مبادرة لحل الأزمة سياسيا، حيث عبر عن قناعته بأن روسيا ليست مستعدة للتفاوض بحسن نية، وحتى المتحدثة باسم الخارجية الصينية ركزت على أن الصين ترى أن حل جميع النزاعات لا بد أن يمر في النهاية عبر طاولة المفاوضات، ورغم التباين في مضامين تصريحات وزير الخارجية الأوكراني إلا أن كييف سرعان ما اضطرت لإعطاء تفسيرات تخفف من لهجة الرغبة في تحقيق هذه المفاوضات، حيث أكدت الخارجية الأوكرانية في بيان أن “كوليبا” شدد على أن أوكرانيا ترغب أيضا في اتباع طريق السلام والتعافي والتنمية، وأن العدوان الروسي دمر السلام وأبطأ التنمية، وأن “كوليبا” أراد أن يقول أن أوكرانيا ستجري المفاوضات في مرحلة قادمة معينة.
الجدير بالذكر أن لبكين موقفا مميزا، فهي تقيم علاقات استراتيجية شاملة مع روسيا، وتطور باستمرار علاقاتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية معها، وتتهم الغرب بصب الزيت على النار، وعدم إيلاء الاهتمام الكافي للمطالب الأمنية الروسية، وتدعو إلى إنهاء المعارك على العكس من الغرب الذي يطالب أوكرانيا بتحقيق هجومات معاكسة، ويوسع من تزويدها بمختلف أنواع الأسلحة الفتاكة، إلا أن الصين مع ذلك قدمت نفسها باستمرار كطرف محايد، وأكدت أنها مع وحدة أراضي أوكرانيا عدا عن أنها اقترحت مبادرة لحل الأزمة الأوكرانية سلميا رحبت موسكو بها من حيث المبدأ، وأهملتها كييف حتى أن “كوليبا” أعلن في منشور له على إنستغرام أن هناك ضرورة لإجراء حوار مباشر بين كييف وبكين وتجنب التنافس بين خطط السلام. ومع ذلك شددت الخارجية الصينية على أن روسيا وأوكرانيا أبدتا استعدادهما للتفاوض بدرجات متفاوتة.
وقد عبرت موسكو عن ترحيبها بشكل غير مباشر بموقف وزير الخارجية الأوكرانية، حيث أعلن بيسكوف المتحدث باسم الكرملين أن ما طرحه “كوليبا” يتسق مع طرح موسكو التي تنتظر التفاصيل، كما أوضح أن روسيا لم ترفض قط المفاوضات بشأن أوكرانيا وظلت منفتحة دائما في هذا المجال وأن ما جاء على لسان “كوليبا” من بكين يتوافق مع مواقف موسكو.
ومن الواضح أن التردد في مواقف كييف يعود إلى التقديرات باحتمال فوز ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية، وإمكانية أن توقف الولايات المتحدة مع فوز ترامب المساعدات لأوكرانيا، عدا عن تنامي بعض المواقف الأوربية الرافضة لاستمرار الحرب وحتى غير المؤيدة لإرسال مزيد من الأسلحة إلى أوكرانيا التي لن تصمد أسبوعين إن توقفت المساعدات الأوربية والأمريكية، وهذا الواقع إضافة إلى الواقع الميداني الذي لا تحقق فيه أوكرانيا سوى تقديم المزيد من الضحايا في صفوف جنودها لعب دورا محوريبا كذلك في بداية تغير الموقف الأوكراني، ولهذا نرى هذا الطابع المتناقض في مواقف الرئيس زيلينسكي نفسه، حيث سبق أن شدد في تصريحاته بأكثر من مناسبة أن أوكرانيا لا يمكن أبدا أن تتفاوض مع روسيا التي وصفها بالمعتدي، بل إنه اتخذ بنفسه مرسوما جمهوريا يحظر أي تفاوض مع موسكو، وخاصة مع احتلالها حسب تعبيره للأراضي الأوكرانية بشكل مؤقت، أي أن أوكرانيا عازمة على تحرير تلك المناطق التي انضمت إلى روسيا، لكنه كما هو واضح أصيب بصدمة من انسحاب بايدن من السباق الانتخابي، فأدرك أن المساعدات الأمريكية باتت تحت إشارة استفهام، وخاصة بعد حواره مع ترامب كرئيس محتمل، حيث شدد على أنه سيُنهي الحرب التي أودت بحياة الكثير من الأرواح، ودمرت عددا لا يحصى من العائلات البريئة، ويلاحظ أن زيلينسكي في تعبيره عن ضرورة تحقيق السلام كرر عمليا بعض عبارات ترامب بشأن الحفاظ على الأرواح، والحقيقة أن الشعب الأوكراني نفسه شعر بأن الغرب يحارب روسيا بواسطة أوكرانيا التي وضعها في المواجهة، وهو يقدم السلاح لكن أوكرانيا تقدم الأرواح، وقد تزايدت نسبة الخسائر البشرية بشكل ملحوظ حتى وصلت وسطيا إلى الفي قتيل يوميا من الجنود الأوكرانيين.
والسؤال الذي يطرح نفسه” حول ماذا سيتم التفاوض بين الطرفين المتحاربين؟ كييف تُصرُّ على استعادة ما تعتبره أراضيها (دونيتسك ولوغانسك وزاباروجية وخيرسون والقرم) بما يشكل تقريبا عشرين بالمئة من مساحة أوكرانيا ، وروسيا ضمت هذه الجمهوريات والمقاطعات إليها بعد استفتاء شعبي انطلاقا من أمرين: الأول أنها كانت أراض تتبع لروسيا تاريخيا، وقُدمت لأوكرانيا في فترة كانت أوكرانيا جزءا من دولة واحدة مع روسيا هي الاتحاد السوفييتي، والأمر الآخر أن غالبية سكان هذه المناطق هم من الروس، وقد عانوا من اضطهاد وتصفيات طيلة ثماني سنوات بعد وصول القوميين المتطرفين، أو من يسمون بالنازيين الجدد إلى السلطة، وروسيا لن تتخلى عنها بعد أن غدت جزءا من قوامها ، حتى أن الرئيس بوتن أكد أن الاهتمام الأكبر سيوجه إلى هذه الجمهوريات لرفع مستوى المعيشة فيها ليتناسب مع مستوى المعيشة في روسيا، أي أسوة بالجمهوريات والمناطق الروسية الأخرى، وذلك عبر مشروع متكامل حتى عام 2030 ،فعن أية مفاوضات يمكن أن يجري الحديث؟.
يرجح معظم المتابعين للشأن الأوكراني أن يتم التوصل في نهاية المطاف إلى حل شبه معقول لوقف سيل الدماء، وهو الإقرار بالأمر الواقع دون استكمال تحرير ما تبقى من هذه المناطق تحت سيطرة كييف، ذاك أن روسيا تؤكد ضرورة تحرير بقية هذه المناطق واستكمال انضمامها عبر حدودها الإدارية، ويبدو أن هذه المفارقة ستظهر بشكل جلي إبان مؤتمر السلام الذي يتم التحضير له قبل نهاية هذا العام، إن حضرته موسكو!