دولي

هل تبدأ الحرب العالمية الثالثة من المحيط المتجمد الشمالي (الجزء الثاني)

بقلم د. أيمن أبو الشعر

• واشنطن تعتمد سياسة “الأزعر” وهي التي بدأت جميع الخطوات التصعيدية بدءا من الانسحاب من المعاهدات وانتهاء بعزمها نشر صواريخها في ألمانيا

انهيار النظام الأمني الأوروبي
لم يقتصر تصاعد التوتر على العلاقات الروسية الأمريكية، بل انخرطت بقوة بريطانيا باستفزازات بطائراتها في أجواء البحر الأسود، ناهيك عن احتمال توسع هذه الحالة التناحرية إلى الشرق الأقصى، الأمر الذي عبر عنه وزير الخارجية الروسية في الاجتماع الوزاري لصيغة “روسيا – آسيان” في لاوس حيث أعلن أن آسيان مستعدة لإجراء محادثات موضوعية حول مبادرة الرئيس بوتين، منوها بأنه تمت في آسيان مناقشة تطوير نظام أمن موحد غير قابل للتجزئة في أوراسيا، ويكون مفتوحا أما جميع دول أوراسيا ومنظمات المنطقة، جاء ذلك انطلاقا من إعلان الرئيس الروسي في يونيو الفائت أن النظام الأمني الأوروبي الأطلسي السابق قد انهار، ولا بد من بناء هيكل جديد يأخذ في الاعتبار مصالح جميع الدول الأوراسية، وقد لفت لافروف إلى أن الغرب يحاول احتواء روسيا والصين، ناهيك عن تصعيده باتجاه المواجهة في مضيق تايوان عبر نشاطات عسكرية متعددة ما يؤكد عزمه على زعزعة الوضع بما يتناقض مع مبدأ “صين واحدة”، ويحاول تكريس تايوان ككيان منفصل عن الصين الشعبية، ولابد من القول أن الولايات المتحدة مضت أبعد من ذلك في التوقيع على اتفاقية التخطيط النووي المشترك، ما يزيد من القلق خاصة إن علمنا أن هناك محاولات لاستدراج اليابان إلى مشروع التخطيط النووي المشترك، وزيادة عسكرة المنطقة مع توسيع المناورات المشتركة بين حين وآخر.

اللهب في الشرق والشمال الغربي واحد
عودة إلى ألاسكا فتيل أقصى الغرب كمرآة لكوريا الشمالية وتايون في أقصى الشرق، هاتان البؤرتان تؤكدان النظرية المنطقية جغرافيا ورياضيا، وهي أن أقصى الشرق يتلاقى مع أقصى الغرب، وإن سرت من أقصى الشرق شرقا لوصلت إلى غرب أمريكا الشمالية، فالمسافة بين اليابان وآلاسكا لا تزيد عن 5500 كثيرا وهي من حيث حجم المخاطر متلاصقة وموحدة كفتيل موصول ببرميل بارود.
بعد تصاعد التوتر بين روسيا والغرب وحماس واشنطن لمصادرة الممتلكات الروسية، وعدم الاكتفاء باستخدام عائداتها، وقَّع الرئيس الروسي احتياطا في 18 يناير كانون ثاني عام 2024 المرسوم رقم 21 والذي يشدد على حماية الممتلكات الروسية والسوفييتية والقيصرية في الخارج ما اعتبر إشارة إلى احتمال إثارة موسكو مسألة استعادة آلاسكا من الولايات المتحدة، وباتت بعض وسائل الإعلام الغربية تنشر ضمن تحليلاتها لهذا المرسوم -ومرسوم سابق في نيسان عام 2023 يوجه فيه الرئيس بوتين لاتخاذ الإجراءات اللازمة في حال الاستيلاء على الأصول الروسية في الخارج- بأن أن الرئيس الروسي اعتبر بيع آلاسكا للولايات المتحدة قبل قرن ونصف غير قانوني، لدرجة أن واشنطن أعلنت بغضب وحزم أن آلاسكا ستبقى بأيدي الأمريكيين وأن بوتن لن يستطيع استعادتها، والرئيس الروسي لم يقل ذلك حتى أن مدفيديف علق ساخرا حسنا إذن كنا ننتظر أن تعيدوها لنا ذات يوم، إذن الحرب بيننا أصبحت حتمية..
لكن رئيس مجلس الدوما فولودين لم يكن يسخر ولا يمزح حين أعلن أنَّ على الولايات المتحدة أن تعلم بأن روسيا قد تستعيد منطقة آلاسكا، منوها بأن النزاهة ليست نقطة ضعف، ولدى روسيا ما ترد به حين يحاولون التصرف بمواردها في الخارج، وعليهم أن يتذكروا أن هناك أرض روسية عندهم ويمكن استعادتها.

واشنطن هي التي بدأت بالاستفزاز
استشاطت الولايات المتحدة غضبا لتطور التعاون الروسي الصيني في كافة المجالات، وأقر البنتاغون استراتيجية جديدة للقطب الشمالي، وصولا إلى اليابان، عبر استراتيجية تقضي بزيادة الوجود العسكري في آلاسكا وكذلك في شرقي اليابان، وعلقت زاخاروفا المتحدثة باسم الخارجية الروسية بأن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة بشأن القطب الشمالي تهدف بوضوح إلى تصعيد التوتر في المنطقة على الصعيدين السياسي والعسكري، مشيرة إلى دأب الولايات المتحدة على ممارسة سياسة الهيمنة عبر القوة لضمان مصالحها، حتى أنها وصفت ردود فعل الولايات المتحدة على التعاون بين الدول في القطب الشمالي تدخلا مخزيا من البنتاغون، وذلك لشعورها بالقلق نتيجة التعاون بين روسيا والصين، الجدير بالذكر أن استراتيجية القطب الشمالي الجديدة التي نشرتها وزارة الدفاع الأمريكية تشير بوضوح إلى أن الولايات المتحدة تراقب عن كثب التفاعل المتزايد بين روسيا والصين في القطب الشمالي وتشعر بالقلق إزاءه، بل تطرق بيان البنتاغون إلى أن التغيرات الجيوسياسية والصراع في أوكرانيا إلى جانب انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو وتغير المناخ تدفع إلى طرح استراتيجية جديدة تجاه القطب الشمالي، وذهب بيان البنتاغون أبعد من ذلك حين أعلن بوضوح أن هذه المنطقة تتحول تدريجيا إلى منصة للتنافس الاستراتيجي، وأنَّ على الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها أن يكونوا مستعدين لمواجهة هذا التحدي معا.

منطق الأزعر
فعلا إذا لم تستح فافعل ما تشاء، الذنب الذي ارتكبته روسيا والصين وإيران وحتى الهند وكذلك جنوب إفريقيا والبرازيل ودول عديدة بنسب متفاوتة هو أنها لا تريد أن تكون تابعا أعمى كما تفعل معظم الدول الأوربية، وواشنطن ومن يتبعها في الغرب لم تتعود على أن يقول لها أحد لا.. نعم هنا مربط الفرس! حتى فيما يتعلق بمصير وكرامة وسيادة وأمن هذه الدول.
ولو تذكرّنا بعضا فقط من سياسة الأزعر التي تنتهجها واشنطن وتوافق معها كتابع أعمى معظم الدول الغربية، رغم الوعود الشفهية التي أعلنتها واشنطن بأن قوات الناتو لن تتوسع نحو الشرق بعد موافقة غورباتشوف على سقوط برلين، إلا أنها استغلت ضعف روسيا آنذاك، وعدم وجود قيادة حاسمة إبان غورباتشوف ثم يلتسين، فراحت تضم الدول من المعسكر الشرقي وحتى من دول الاتحاد السوفييتي السابق دولة إثر أخرى، كما قرر الأزعر الانسحاب من اتفاقية الحد من الأسلحة النووية ما دفع موسكو لاتخاذ خطوة مماثلة، وحين طالبت موسكو الحصول على ضمانات أمنية وعارضت التحضير لانضمام أوكرانيا إلى الناتو، تم تهميش هذه المطالب، بل وخدع الغرب موسكو باتفاقية مينسك الوهمية التي كان الهدف منها شحن أوكرانيا بالسلاح، وإعدادها للحرب مع روسيا، إلى أن وصل الأمر إلى الصدام بين روسيا وأوكرانيا وهذا مطلب هام بالنسبة لسياسة الأزعر، ومن جديد يعلن الأزعر عبر سياسة الاستفزاز الفاضحة عن نشر صواريخ متوسطة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية في ألمانيا، بما في ذلك صواريخ “إس إم -6” وصواريخ توماهوك وصواريخ فرط صوتية يتم تطويرها حاليا، أي أحدث أنواع الصواريخ، فهل لدى روسيا وسيلة أخرى سوى أن تعود لإنتاج هذه الصواريخ، والتحذير بأن المغامرة الأمريكية ستجعل ألمانيا وعددا من العواصم الأوربية في مرمى الصواريخ الروسية التي ستكون موسكو مضطرة لتوجيهها إليها بعد نشر التهديد الجديد.
لكن الأزعر الذي يقبع على بعد 8000 كيلو متر عن أوروبا لا يهمه مصير تابعيه الأوروبيين، بل يهمه الاستمرار بعنجهيته وهيمنته وزعرنته.

كاتب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى