نعيش اليوم حالة أجواء الحرب الكبرى وكل العالم في حالة ترقّب، فمنهم المندهش والشامت وآخر مُحبط. ولعل السبب الرئيسي هو كيف حصل الخرق الأمني الخطير في إيران والتي يعتبرها كل جمهور المقاومة بأنها عمقهم الاستراتيجي ومصدر الطمأنينة والأمان لهم، خرقٌ فاق كل الخروقات السابقة التي حصلت في إيران ابتداءً من اغتيال علماء الطاقة الذرية المشرفين على البرامج النووية مرورا بالمستشارين العسكريين والقادة، وأكبر من تفجير منشأة إيرانية هنا أو هناك بل وحتى أخطر من عملية الاغتيال التي نفذها الموساد والتي أدت إلى استشهاد رئيس الجمهورية ووزير الخارجية بتاريخ 19-4-2024. بالتأكيد هذه المرة أخطأوا فقد اغتالوا ضيفاً يحلُّ على إيران بدعوة رسمية من الدولة ومن هنا نلمس مستوى الألم لدى الحكومة والمسؤولين في إيران حين وصفوا الذي جرى بأنه تدنيسٌ للشرف!
لذلك لا يوجد أمن محكم ومطلق في أي دولة، مهما كانت متطورة ومتقدمة تقنياً وأمنياً واستخبارياً.. وخير مثال هو تفجير أبراج مركز التجارة العالمي في نيويورك في 11 سبتمبر 2001، واقتحام كتائب القسام لجدار غلاف غزة في 7 أكتوبر 2023. فكيف الحال في إيران التي تواجه تهديدات وتحديات خارجية وداخلية جدية وفاعلة؟ ناهيك عن الحصار الذي أتعبها وأثقل كاهلها، بالإضافة إلى خصومها الكُثر في الداخل كمجاهدي خلق، فلول الشاه، البلوش، الأكراد، وشريحة من الأحوازيين والإصلاحيين من اتجاهات كثيرة.. وخصوم الخارج كأميركا، “إسرائيل”، الأنظمة الخليجية، والمتطرفون من الجماعات السلفية وحتى شرائح عديدة من الجوار العراقي..
لكن! وبعد عدة اختراقات حصلت في إيران وسوريا ولبنان، والتي كان آخرها اغتيال الشهيد فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت، فبات لزاماً إعادة النظر الآن وفوراً بإجراءات الأمن الوقائي والدفاعي للرموز والمنشآت الحيوية فإن الأقمار التجسسية للخصم والتجسس الإلكتروني أكبر تحدٍ نواجهه الآن، فيجب إعطاء الأولوية بدون أي إهمال أو تردد أو تراخي. فقد كانت أنفاق غزة وأنفاق حزب الله خير تحصين أمني تجاه هكذا تهديدات. وإن ردّ الضربة بضربة أقوى بالتأكيد ضروري جداً لتحقيق الردع.. فالسكوت والرضوخ مع هكذا عدو أمر خطير، إذ أن الضربة الرادعة أو التلويح بالضربة الرادعة ينبغي أن يكون محسوب بدقة في ميزان الربح والخسارة، وفي ميزان الكُلَف، وميزان الجدوى.
منذ الآن بات من الضروري التفكير والتخطيط والتجهيز استخبارياً وعملياتياً، لاستهداف رموز إسرائيل سواء من هم في داخل فلسطين المحتلة ومن هم في كل مكان في العالم، كما يفعلون حين يقتلون مقاوم فلسطيني في إيران ويقتلون ضابط إيراني في سوريا ويقتلون قائد يمني في العراق وفق قاعدة الندّ بالندّ، وهذا هو الفاعل الأكبر لتحقيق الردع. وفي نفس الوقت فإنه من الضروري لقيادة إيران إجراء مراجعات فكرية كأمر حيوي يساعد على حفظ أمن الداخل ونظافة المجتمع من الاختراقات الأمنية مهما اختلفت مستوياتها.
وإذا كانت انتفاضة إيران للثأر هي ومن معها من فصائل وحركات مقاومة، والمتوقعة في أيّة ساعة، يُمكن أن تجرّ إلى حرب شاملة، وستتدخل أمريكا مباشرة لصالح العدو الصهيوني، فإن الخيار البديل هو الاغتيال مقابل الاغتيال، وهو بلا شك الأصوب في هذه الظروف المعقدة والملتهبة، حيث أن الحرب الشاملة يريدها بل ويسعى إليها بنيامين نتنياهو لمصلحته الشخصية والسياسية، وهو يسعى ليضرب إيران بأمريكا، وإن تحقق هذا فيكون قد تحقق ما يتمناه، وإن الأمريكان يدركون ذلك. وهنا فلنستذكر ونروي لمن لم يشهد تلك الأيام كيف كانت تعمل المقاومة، سواء الوطنية أم القومية أم الإسلامية أم العالمية وهنا فلنذكّر بما قامت به الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حين اغتالت إسرائيل الأمين العام للجبهة الشعبية “أبو علي مصطفى”،حيث ردّت الجبهة على ذلك باغتيال الجنرال الإسرائيلي والوزير السابق رحبعام زئيفي في 17 أكتوبر 2001 مُحقّقة بذلك الردع ولو بشكل محدود، ولكنه كان مؤثراً جداً في جدار الأمن الإسرائيلي.. ويبدو أن إيران وأطراف المقاومة معنية بهذا الخيار حالياً، حيث بات العمل عليه ضروري وحيوي..
إن حالة الانتظار والترقب والاستنفار التي يعيشها حالياً المجتمع في “إسرائيل”، بالتأكيد هي سلاح مؤثر من الناحية النفسية كونه يُسبب الإرهاق والذعر والخوف والرعب، كما أن التلويح بضربة رادعة مهم حتى لو تأخر، فهو سلاح جديد في مسرح الصراع، والجميع انتبه إليه وباتوا يتحدثون عنه، فلقد أحدث ويحدث في “إسرائيل” كُلفاً مالية واجتماعية ضخمة، إضافة للحالة النفسية التي ذكرناها.
الكلّ بانتظار ما سيحدث، ولا أحد يعرف ما يحدث وما سيحدث، وهذا هو المهم!
الملفت للنظر والانتباه والحذر أن في إسرائيل طرف متطرف محسوب على نتنياهو وزمرته، يُفكّر جديّاً في توجيه ضربة استباقية ضد بيروت وطهران، لكسر حالة الترقب المكلفة من جهة، ولإحباط استعداد إيران وبقية الفصائل من جهة ثانية. وهذا يتلاءم مع نوايا نتنياهو بالتصعيد، خاصة بعد أن حصل على تأكيد إدارة بايدن بالتدخل المباشر والدفاع عن إسرائيل ضد أي هجوم إيراني، وهذا احتمال وارد وغير مستبعد، خصوصاً وأن كمالا هاريس المرشحة للانتخابات الرئاسة الأميركية عن الحزب الديمقراطي قد صرحت أنه “في الوقت الذي نستعد للدفاع عن إسرائيل، نعمل مع شركائنا في الشرق الأوسط لمنع وقوع حرب إقليمية”، وكذلك وزير الخارجية أنتوني بلينكن قد صرّح قائلاً أن “المنطقة تمر في لحظة وحالة حرجة وصعبة بسبب تهديدات إيران وأذرعها”..
إن ضبط إيقاع حالة الترقب، وتوجيه الضربة لإسرائيل (الردّ)، ومنع توسعها لحرب إقليمية شاملة، أغلب خيوطه وتقديره بيد القيادة الإيرانية حالياً. ومع ذلك يبدو أن الأمريكان شعروا بقرب توقيت الضربة الإيرانية، ويظنون أنها ستأتي غداً الأربعاء، وبسبب هذا الإحساس غيّر أنتوني بلينكن تصريحه هذا اليوم، ليؤكد على ضرورة وقف التصعيد من قبل كل الأطراف، وكان مرتبكاً، ووجه متجهماً وكأنه خائف من المواجهة.