صحافة وآراء

يضحك كثيرا من يضحك أخيرا

بقلم د. أيمن أبو الشعر

• القوات الأوكرانية في كورسك تسيطر على 1000 كيلومتر مربع قد تتحول إلى فخ ومفرمة للحم بالنسبة للجنود الأوكرانيين أنفسهم
دخلت عملية اختراق القوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك مرحلة بالغة الضبابية من حيث الأهداف والإمكانيات والنتائج، ترافق ذلك مع تصريحات متباينة حول حقيقة الوضع الميداني من الجانبين الروسي والأوكراني.

أهداف يصعب تحقيقها
يقال أن الطموح الواعي يطرح هدفا يستطيع تحقيقه ويعمل بجد للوصول إليه، لكن المغامر من يضع أهدافا يصعب تحقيقها وبالتالي هو يقامر بأن تنعكس نتائجها سلبا عليه لكن الأحمق هو الذي يضع نصب عينيه أهدافا لا يمكن تحقيقها، وهي آجلا أم عاجلا ستنقلب وبالا عليه.
فقد كان واضحا للعيان أن أوكرانيا قصدت السيطرة على المحطة النووية في منطقة كورسك لتكون ورقة ضغط حقيقية قد تسعى إلى مبادلتها مع محطة زاباروجيه التي يسيطر عليها الروس، وأن تكون الأراضي التي سيطرت عليها أيضا مجالا للضغط في أية مفاوضات محتملة، لكن محطة كورتشاتوف والتي تعرف بمحطة كورس بعيدة عن الحدود الأوكرانية 60 كيلومترا والوصول إليها دونه شق القتام، لذا بات واضحا أن الهدف الأول عصي عن التحقق، فماذا عن هدف احتلال أراض روسيا لمقايضتها بما تحتله، وقد تمكنت القوات الأوكرانية بعد قرابة عشرة أيام من بدء الاقتحام المباغت في ثغرة ضعف دفاعية حسب القائم بأعمال حاكم مقاطعة كورسك سميرنوف تمكنت من السيطرة على قرابة 450 كيلو متر مربع تضمنت 28 بلدة وقرية، في حين تحدث قائد الجيش الأوكراني سيرسكي عن توسع في اليومين الأخيرين، والسيطرة على 1000 كيلو متر، واحتلال 74 قرية وبلدة حسب زيلينسكي نفسه فهل تصلح مثل هذه الرقعة كمادة ضغط للمفاوضات والمقايضات؟
حتى إن اعتمدنا التصريحات الأوكرانية سنجد المفارقة مذهلة تذكر بالنكات الشائعة في بلداننا عن مغامرات النملة والفيل، حيث تسيطر القوات الروسية على أكثر من 120 ألف كيلو متر مربع داخل الأراضي الأوكرانية وقد حسمت أمرها في ضمها إلى روسيا عبر استفتاء شعبي ذاك أن الشعب في تلك المناطق يقف بقوة مع روسيا كونه روسيا أساسا، في حين أن الألف كيلو متر مربع التي احتلتها أوكرانيا باتت شبه فارغة من الأهالي، وليس فيها أوكرانيون يقفون مع كييف، وإن كانت القوات الأوكرانية قد رفعت العلم الأوكراني في بلدة سودجا، ثم إن ما تسيطر عليه روسيا يشكل بعد توسع سيطرتها على المناطق الجديدة يشكل ما يزيد عن 20% من الأراضي الأوكرانية، في حين أن ما تسيطر عليه أوكرانيا يشكل أقل من 1 ليس بالمئة بل من 17000 من مساحة روسيا، فعن أي مقايضة يمكن الحديث في مثل هذه الحالة، من هنا تسقط احتمالية هذا الهدف الأمر الذي توضح بشكل جلي على لسان الناطق باسم الخارجية الأوكرانية غيوؤغي تيخي بأن القوات الأوكرانية ستوقف توغلها فورا إن وافقت روسيا على سلام عادل، ويقصد الخطة التي طرحها الرئيس زيلينسكي، والتي لا يمكن أن توافق عليها موسكو بحال من الأحوال.

إمكانيات متراجعة رغم ضخ الأسلحة
المعروف عسكريا أن القوى الجوية والبحرية مهما كانت قوية لا تستطيع السيطرة على أية مساحات برية رغم أنها تستطيع تدميرها، فالاعتماد الرئيس في حال الرغبة في السيطرة على منطقة ما هو العامل البشري تحديدا، ولهذا زجت أوكرانيا في البداية 1000 عسكري ثم عززت تلك القوة باثني عشر ألف عسكري ومزيد من القوات المدرعة حسب القائد الشيشاني الجنرال ابتي علاء الدينوف، وتقول بعض المصادر أنها أشركت حتى الان قرابة 20 ألف مقاتل معظمهم من النخبة، ولكن ما الذي يجري على أرض الواقع ، الملاحظ أن القوات الروسية تحفر الخنادق لمنع أي تقدم لاحق للقوات الأوكرانية التي بدورها -ربما أدركت مدى خطورة توسيع المساحة وتعميق التوغل- راحت تنشر الموانع والأسلاك الشائكة.
ماذا يعني ذلك؟ صحيح أن القوات الروسية أصيبت بارتباك جدي نتيجة المباغتة غير المتوقعة لكن هذه القوات قد تغدو قريبا في فخ حقيقي محصورة في مساحة لا تتعدى الألف كيلومتر، وبالتالي يمكن أن تبيدها القوات الروسية مع مرور الوقت دون اشتباك مباشر، وذلك عبر الطيران والقصف والمسيرات، وأوكرانيا خلال ثلاثين شهرا من الحرب فقدت حسب بعض التقديرات أكثر من 700 ألف عسكري، وبات اعتمادها بالدرجة الرئيسية على المجندين بأعمار تجاوزت الخامسة والثلاثين وحتى الأربعين عاما، أما النخبة مع المرتزقة فهم لا يزيدون عن 25 ألفا، ولا يمكن مقارعة دولة عظمى كروسيا بمثل هذه القوة حتى لو كانت من النخبة، وهو ما يفسر استمرار الانتصارات التي تحققها القوات الروسية في دونباس، والتي كان من بين أهم أهداف الهجوم على كورسك دفع روسيا لسحب بعض قواتها من دونباس.

النتائج ستعلن عن نفسها قريبا
صحيح أن طبيعة ما يجري بعد الاقتحام يوحي بأن بقاء هذه الثغرة في مقاطعة كورسك تحت السيطرة الأوكرانية سيستمر لأسابيع وربما لأشهر، ولكن النتائج السلبية بالنسبة لأوكرانيا بدأت تتكشف منذ الآن عبر سقوط مزيد من القتلى في صفوف القوات الأوكرانية والتي تشير الدفاع الروسية إلى سقوط أكثر من ألفي جندي أوكراني خلال الأسبوع الأول يضاف إليهم أكثر من 400 خلال اليوم الأخير وحده إلى جانب تدمير قرابة 50 مدرعة وآلية عسكرية هذا ناهيك عن ازدياد إحكام الكماشة على القوات الأوكرانية بقصف طرق الإمداد وحتى مصدره في مدينة سومي، وبالتالي بدأ منذ الآن سقوط الهدف الأوكراني في تحويل المقايضة من الأرض مقابل السلام إلى الأرض مقابل الأرض حيث لا مجال للمقارنة أساسا، الشيء الوحيد الذي يمكن أن تفاوض عليه أوكرانيا بشكل عملي هو تبادل الأسرى حيث أبلغ قائد الجيش الأوكراني سيرسكي الرئيس زيلينسكي بأسر 100 من الجنود الروس فأجاب زيلينسكي حسنا سينفعوننا في تبادلهم لقاء شبابنا.
ولكن ماذا عن الغرب؟ الدول الغربية عموما ابتهجت ورحبت بالاختراق الأوكراني، وتابعت الإعلان عن تأييدها لأوكرانيا والقوات الأوكرانية واستمرار دعمها بالسلاح والأموال دون أن تصدر بيانات رسمية تعلن فيها تأييدها لغزو الأراضي الروسية، لكنها عمليا أعطت الضوء الأخضر لكييف ليس فقط بالقيام بالهجوم، بل وباستخدام الأسلحة الغربية في هذا الهجوم حيث عرضت موسكو بعض الدبابات والمدرعات والعربات الغربية المدمرة في كورسك، وأخطر ما في الأمر هو ما كشفت عنه صحيفة الفاينننشال تايمز من وجود مخطط سري لدى موسكو يشير إلى احتمال اللجوء إلى حقها في استخدام السلاح النووي حين تتعرض الدولة وجوديا للخطر، ونوهت بأن الأهداف الموضوعة تشكل أكثر من ثلاثين هدفا في أوروبا، وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا والنرويج وإستونيا في البلطيق، ويستبعد معظم المحللين مثل هذا السيناريو الذي سيعني بدء الحرب العالمية الثالثة وفناء العالم، لكنهم لا يستثنون استخدام روسيا لأسلحة نووية تكتيكية وليس بقصف الدول الأوربية، بل في قصف أوكرانيا نفسها، ولعل من أهم النتائج السياسية لاقتحام الأراضي الروسية هو أن هذا التوغل الذي كان يهدف إلى تحسين شروط المفاوضات بالنسبة لكييف، أبعد إمكانية إجراء المفاوضات إلى أجل غير مسمى.

كاتب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى