صحافة وآراء

تمثلات العنف في حرب الابادة “رؤية أنثروبولوجية”

بقلم د. مها أسعد

يُمثل العنف جزءً من خزين لأي حرکة ومورداً لها، كما أنهُ يُعد وسيلة لتشکيل الهوية، حيث إن التصور للعنف يُشکل وفق الثقافة، فهو تمثيل لقيمها، كما وأنهُ يُعد أنتاج لخبرات مُتميزة لها، لأن الخبرات الاجتماعية تُختزن في الذاکرة الجمعية لأعضاء تلك الثقافة؛ لذلك تُساهم الثقافة مبدئياً في صوغ تمثلات العنف في ميدان أجتماعي مُعين، وهي بقيامها بذلك تُضفي معنى محدداً على الصراع الفعلي عن طريق وضعهُ في إطار من ردود الأفعال المناسبة التي تبرز في ظل ظروف قابلة للمقارنة في الماضي، على الرغم من  ندرة عدد حوادث العنف التاريخية التي لاحظها الانثروبولوجيون ملاحظة مباشرة، إلا ان هذا التوجه  فرض نفسة لانه جزء من حياة الإنسان فلا بد من دراسته فليس ثمة أسلوب بديل للتعاطي مع مجموعة المصادر المتباينة والمتناقضة التي تناولت هذه الأحداث سوی هذا الأسلوب اي الملاحظة واقحام الباحث نفسه في التجربة، وتميل  الأنثروبولوجيا عادة إلى إعادة ترتيب الأدلة وتقسيمها وفق ثنائية سرديات أفراد الثقافة قيد الدراسة، حيث يُستعمل العنف ويوظف على نحو استراتيجي منظم، وقد تغدو تأثيرات التجربة العنيفة ومخلفاتها مصادر معلوماتية مهمة تُشكل الأساس الذي تستند إليه الدراسات، وتُسهم هذه المعلومات في تحديد الآليات التي يوظفها الباحثون والعلماء في مجال التنظير للعنف والتي ترتبط في حقل العنف ارتباطاً قوياً بالطرائق التي تصور خلالها الأفراد الحدث العنيف وجربوه، فضلاً عن معرفة الطرائق التي يجري بها تمثيل حوادث العنف محلياً وباختصار معرفة كيف تدخل تجربة العنف في وعي الباحث الإثنوغرافي، وهذه تحديداً اللحظات التي يُحاول استعادتها لإنتاج لحظة انعكاسية عند تحليلهُ للعنف، لحظة تفتقرها الأعمال الأخرى التي تناولت الموضوع نفسه ولا سيما تلك الأعمال المُنتجة خارج حدود الأنثروبولوجيا، والمُسببة للعنف أمثال ندرة الموارد والانتقالات السكانية، والتنافس الأفقي والعامودي على السلطة، وتخلف وراءها أثاراً مادية عيانية بالإمكان تقييم تأثيراتها في كُل من السُكان والبيئة، والتي تنتج عنها الحرب بوصفها خطاباً حول العنف بعامة أو حول مواجهات محددة إليه بخاصة، ويقع هذا الخطاب على ثلاثة فئات داخل الميدان: الرابحين والخاسرين والملاحظين. المجموعة الأخيرة لا تُمثل مصالح متباينة ومستويات مُختلفة من الانخراط في فعل الحرب فحسب، بل إنها تعكس كذلك خلفيات ثقافية مختلفة، ففي ضوء معرفتنا تكون هذه المُقاربة ملائمة تماماً لتحليل حروب بعينها بوصفها أحداثاً متعددة الأوجه، حيث أثبتت مقاربات مثل هذه  كفاءة عالية لجهة تسليطها الضوء على صورة الحرب الثقافية في مجتمع بعينه، وبغية تحليل نموذج الحرب لدى الثقافة نجد أن الحرب تُقدم نفسها للمحلل في مستويين مختلفين هما، مُستوى الحرب بوصفها فعلاً يقع مُتجابه لعوامل بنائية ملموسة وقابلة للملاحظة، ومستوى أخر عن اللجوء إلى ثمةَ حوداث للعنف تُعبر عن الرغبة في توسيع نطاق المُشاركة في التبصرات الناجمة عنها والإستفادة من أخطائه وتجنب تكرارها في المُستقبل.

يندرُ أن يكون الأنثروبولوجيون مُستعدون نفسياً أو جسدياً لحوادث العنف التي تقع في مُحيطهم، كما أنهم يبدون أقل أستعداداً للتعامل مع التأثيرات التي تُخلفها هذه الحوادث فيهم فيما بعد، حيث يقع بعض الأنثروبولوجيين صرعى لعوارض مرضية ذهنية أو جسدية في أثناء مواجهتهم حوادث العنف في الحقل لما تكون باداتهم واستراتيجية بحثهم من انغماس في مُجتمع البحث المُعرض للعنف موضوع الدراسة، و يواصل بعضهم الآخر العمل في مسارات بحثية وفكرية قد تبدو لزملائهم غامضة وغير واعدة، فضلاً عن أن هناك الكثير من الصعوبات التي تعترض سبيل عملية الكتابة عن العنف مثل تحويل ما دمر واستهلك وانهار إلى موضوع بحثي، أو الاستمرار في الحديث عن أشياء لم تعد موجودة إلا في الجراح والتصدعات والآثار، فبالنظر إلى الوقت الطويل الذي تتطلبه عملية كتابة البحث الإثنوغرافي، يحدثُ عادةً تأخير في التعبير عن هذه الحالات أو الإسهام بفاعلية في التصدي لها، ولا يمكن تعقب تشكيلات ردة الفعل  التي تُحدِث التجارب العنيفة أنقطاعاً في عملية التبادل، إذ تُسهم عملية الدخول في مواجهة مع الحدث العنيف في إقامة نوع محدد من العلاقة بين الباحث والموقع الحقلي، وبالتالي مع المؤسسات الأكاديمية في حال عودة الباحث إلى بلده الأم، وإلى الحد الذي يخاطب فيه الحدث العنيف، ليس ثمة جواب مُحدد ومقنع عاطفياً يُمكن للباحث الحصول عليه في أثناء إجراء دراسته الحقلية أو بعدها، وبالطبع لا يتبقى من العمل الحقلي بعد انتهاء الباحث منه سوى الملاحظات الحقلية، وأشرطة المقابلات التسجيلية والصور والذكريات، وفي نهاية المطاف نأمل أن ينجح النتاج العياني للجهود الأكاديمية في تقديم أجوبة تفسر الأحداث التي خبرها الباحث والتي تتخذُ عادةً شكل نص مكتوب أو ربما فيلم، وقد تتحول توقعات مرتكبي حوادث العنف وضحاياهم ومتطلباتهم المُختلفة إلى عبء ثقيل يرهق كاهل النص الإثنوغرافي، في حين يبدي آخرون اهتماماً وجودياً بما ينتجه الباحث الإثنوغرافي أو يختار عدم إنتاجه وعلى نحو مواز مُحدد لحوادث العنف، إذ تُخلف هذه الحوادث عادةً جملة من التأثيرات النفسية العميقة والمؤلمة، منها شعور الأفراد الذين كانوا شاهدين عليها من دون أن يتدخلوا للحد منها أو إنقاذ ضحاياها عند مُعالجة الوضع،  وتتسم التأثيرات في محاولة فتح المجال أمام الآخرين للوصول إلى المعلومات والأفكار التي تناولتها الدراسات المتضمنة لحالات العُنف داخل الحرب او ما خلفته الحرب، وهذا يتيح للقارىء فرصة إما التدخل في خطاب الباحث الإثنوغرافي وإما إثراء دراسته بالمزيد من المعلومات المستمدة من ذخيرته الشخصية وأما الإسهام في التفسير؛أذ تتسم الأشكال التي يتخذُها العنف في بعض المواقع بكونها غير متماثلة، فإن الشعوب في كثير من الأحيان قد تبادلت الأدوار بين الضحايا والجلادين، وكُلها تضم بين ثناياها ضحايا وجلادين المُضادة للحتمية التي تمتاز بدقتها وتوفيرها مجالاً رحباً لمرونة الدماغ والذهن، ولقابليتهما على ألا يُحددا مُسبقاً في أكتسابهما موهبة التحول وقدرتهما على التغير والعكس والقلب، فوفقاً لهذا التصور قد تؤثر هذه الخصائص في التاريخ الإنساني، بوصفها إمكانات أو أحتمالات أكثر من كونها محتومة أو مُلزمة؛ وربما لا تتحول هذه إلى أنشطة على الإطلاق.

نصل بهذا إلى مفارقة من منظور دراسات الإبادة: لقد أتاحت سيطرة الاستعمار البريطاني واحتلاله إفريقيا خلال عقد الخمسينيات سحق حركة ماوماو الاستقلالية واعتقال جماعة الكيكويو بأكملها وسجنهم، وما صاحب ذلك من تعذيب وقتل وتمثيل بجثث عدة آلاف من المواطنين الكينيين، تكرار الإبادة وانتشارها خاصة في الجرائم التي اقترفها الاستعمار ضد الأبورجينيين في تسمانيا وفي استراليا عموماً، وضد الأمريكيين الأصليين في الولايات المتحدة، العنف في الحرب هو القيام بأشنع ما يمكن أن يقوم به الإنسان تجاه الإنسان بالتصفية الجسدية ودب الرعب في قلوب اصحاب الأرض “المُستعمرين” في ضربة عادة ما تتقدم مشروع المُستعمر، مُقاربتنا العملية هنا ما قام به الجيش الصهيوني المُستعمر بأصحاب الأرض الفلسطينيين وما تخللتها من سلوكيات ومنها الإستيلاء على ملكيات الأراضي بعد القضاء على أصحابها، عن طريق استلام الأرض المحروقة بعد حرقها، او اغتصاب اي أرض تحلو لهم وتحويلها إلى ملكية للدولة المستعمرة، وهو ما يُطلق عليه ب “التأميم الاستعماري”، ومنحها إلى المُستعمرين القادمين الجُدد “المستوطنين”، وبشكل تعسفي بإجراءات فظة  غير إرادية وشرعنتها وفق إجراءات قانونية بقانون مدني وبسرعة قياسية، ومن ثم يضعون الأسس الأولى لعملية الربط بين الطرفين المستعمر والمُستعمر، في ما يتعلق باستنزاف منتوجات المستعمرات وبأثمان بخسة  بإستغلال جائر ممنهج لأبناء المستعمرات، في مقابل مشتريات بأسعار باهظة لمنتوجات المستعمر المصنعة، والذي هو في عين “ابن المستعمرة” قوة اجتماعية، ويُطلق عليه “عنف الغرض”، حيث بوساطته يخضعهم لتقبل القوانين الوضعية المدنية الجديدة والتي تكون فيها أمتيازات للمُستوطنين، كما ويُستعمل  أثناء تحركه لإقامة النظام ودعم ركائزه، ومن ضمن ألاف مشاهد العنف التي تعامل بها المُحتل في حربه هذه الأخيرة ضد غزة “طوفان الأقصى” هي أفراجه عن أكثر من 88 جثة لفلسطينيين كانت قد أعتقلتهم خلال عملياتها العسكرية أو حتى جثامين حصلت عليها من خلال نبشها للمقابر في العمليات العسكرية المختلفة في داخل قطاع غزة فلا هوية لهذه الجثامين، لذلك رفضت وزارة الصحة الفلسطينية في القطاع من استلامها واخرجتها من داخل مجمع ناصر الطبي التابع لوزارة الصحة، وهذا يأتي في سياق اللجنة الدولية للصليب الأحمر أيضاً حيث أن ليس لديها اي معلومات ولم تُشارك حتى في استلام وتسليم هذه الحاوية التي تضم هذا العدد من عشرات الجثامين لفلسطينيين، مما جعل الناس تقوم بالمتابعة والبحث عن أبنائهم داخل الحاوية التي فيها الجثامين حتى الأطفال يسترقون النظر داخلها، بينما هذه الحاوية نفسها عالقة في الشارع بانتظار أن يُعرف مصيرها ومصير من فيها؟!

وواضح مما تقدم ان الاحتلال يُريد ان يُعطي صورة ذهنية تبقى لصيقة في اذهان الشعوب تصور بأن كُل من يعترض سياستنا ونهجنا التوسعي سنمحي حتى هويته الشخصية عند دفنه بشكل أشلاء مُتفسخة بهذا النحو بقصد أن نمحو أثره؛ ولكن قصدهم هذا لن يتحقق فإن تركيبة الإنسان السايكولوجية تدعوه للاصرار على تحقيق الهدف كُلما زاد التحدي، وليس اي هدف إنها معركة وجود وأن المُقاومون لن يتخلون عن هدفهم في أسترداد الأرض.

كاتب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى