ها قد فعلها نتنياهو أخيراً، وأقدم على إقالة وزير حربه في وقت تستعر فيه ما أسماها بنفسه “حرب الوجود”.. وها هي تكتفي إدارة واشنطن بالتعبير عن “الصدمة المفاجئة” لها من هذا القرار الجريء وغير المسبوق لدولة تخوض حرباً مصيرية، وهي التي تدّعي بأنها تُبصر حركة النملة وتسمع دبيبها في منطقة الشرق الأوسط المليئة بقواعدها العسكرية، وطائرات الأواكس وقاذفاتها الاستراتيجية وأساطيلها وقطعها البحرية، وشبكات تجسسها المنتشرة على الأرض.
ربما لم يكن هذا القرار مفاجئاً لمتابعي التحوّلات الداخلية المتلاحقة في “الكيان” المجرم، وأسلوب الخداع والتحايل واقتناص الفرص بل وخلقها الذي يُتقنه نتنياهو بجدارة منقطعة النظير في التقاط اللحظة الأنسب لاتخاذ قراراته، وضرب خصومه ومعارضيه في الداخل والخارج، لكن ان يُوجّه لإدارة بايدن بعد كل ما قدّمته له ولدولته هكذا صفعة مدوّية في يوم السباق الانتخابي المستعر، ليعلن ودونما مواربة تفضيله لترامب بمنتهى الوقاحة ونكران الجميل، ولرجل إدارة بايدن المفضّل وزير الحرب يواف غالانت، فهذه ضربة معلّم تأتي في وقتها لدوافع شتى، وتحمل مضامين كثيرة في اتجاهات متعددة، وتستهدف عدة عصافير في ضربة واحدة.
من حيث المواقف العنصرية والغطرسة والإجرام تجاه الآخر، أي آخر، لا خلاف جذري بين نتنياهو وغالانت فكلاهما مطلوبان للعدالة الدولية بارتكاب الإبادة وجرائم الحرب، لكنهما اختلفا قبل طوفان الأقصى فيما يعرف بقانون التعديل القضائي، تمت حينها الإقالة الأولى لغالانت، وتم تراجع نتنياهو عن قرار إقالته بضغط من الشارع الإسرائيلي مصحوباً بإرادة البيت الأبيض وقتذاك. كما ظهر خلاف بينهما حول التحقيقات بالفشل العسكري والأمني والاستخباري يوم 7تشرين أول /اكتوبر 2023، وتحميل مسؤوليات هذا الفشل الكارثي، وبرز على السطح تقاذف الاتهامات ما بين القيادات السياسية والعسكرية والأمنية. وكعادته في التملص الزئبقي، اتجه نتنياهو للهروب إلى الأمام قبل أن يطاله الاتهام بذلك الفشل، وبدأ باستراتيجية إضعاف الجيش والمؤسسة الأمنية، فاطلق يد بن غفير لإعادة فك وتركيب الشرطة على هواه، ومنح سموتريتش وزير المالية والوزير في وزارة الدفاع صلاحيات واسعة في ملف الأستيطان في الضفة الغربية، وبدا يشيع مخططات وهمية حول إعداد انقلاب عسكري عليه، وشاركته في ذلك زوجته سارة “دكتاتور إسرائيل الخفي”، وحتى ابنه يائير عبر تغريداته.. وكان تصريح نتنياهو اللافت: “إسرائيل دولة لها جيش.. وليس جيش له دولة”، رغم ان الوقائع التاريخية تؤكد أن هذا “الكيان” شكّلته عصابات إجرامية معروفة تحوّلت إلى جيش أصبح في لحظة تاريخية مواتية دولة وظيفية قتالية وقاعدة عسكرية متقدمة للغرب الاستعماري في الشرق الأوسط ، تقوم على الحروب العدوانية والاستيطان الإحلالي والتوسع، ولا تزال.
وأما الشعرة التي قسمت ظهر البعير، فكانت إقدام غالانت على المصادقة على طلبات تجنيد سبعة آلاف من الحريديم، وموقفه المنطقي في ظل الحرب الضروس من قانون تجنيدهم والذي صدر بحكم قضائي من المحكمة العليا، ويلتقي فيه مع المعارضة وكبار ضباط الجيش والأجهزة الأمنية. وهو ما يتعارض مع مصلحة نتنياهو الشخصية في المحافظة على إئتلافه وحكومته، بل ويهدد جدياً بانهيارها في حال انسحاب ممثلي الحريديم الشرقيين والغربيين، والذين يحتلون 17 مقعداً ـ 9 لحزب شاس الحريدي السفاردي الشرقي و8 مقاعد لحزب يهودوت هتوراة الحريدي الاشكنازي الغربي ـ وقد مهّد لقراره الجديد بمسرحية بهلوانية مع المنشق عن “الليكود” جدعون ساعر، والتلويح بتسليمه وزارة الدفاع والتي تمخضت عن منحه جائزة ترضية فقط بضمه للحكومة وزيراً بلا حقيبة.
ولعل استبدال غالانت المُقال بوزير الخارجية “إسرائيل كاتس” الأكثر مطواعية والذي سيمضي معه في اشعال المنطقة برمتها واستراج أمريكا والغرب الاستعماري لاستكمال تغيير خارطة الشرق الأوسط بالقوة والمزيد من القوة، كما سيستكمل مع نتنياهو مسلسل إقالات رئيس الأركان وكبار جنرال الجيش ومدراء الأجهزة الأمنية المختلفة، باعتبارهم كبش فداء ليس لفشل السابع من أكتوبر بل وفي موضوع الساعة المتعلق بتسريبات مكتب نتنياهو نفسه. وبذلك يستكمل ملك الملوك نتنياهو كما يطلق على نفسه، ويحب أن يطلق الآخرون عليه، ما بدأه منذ سنوات من انقلاب على دولة “الكيان” التي بدأت علمانية لتحويلها إلى دولة أبارتهايد صهيونية دينية نازية جديدة، ويكون كما توقّع كبار المحللين الإسرائيليين مدنيين وعسكريين مَن سيجلب الكارثة، ويُكرّس حتمية العقد الثامن، ويصبح أول وآخر ملوك إسرائيل.