الأيديولوجيا السياسية لروسيا وأوربا بين الإِزاحة والاحتِواء “رؤية أنثروبولوجية”
بقلم د. مها أسعد
بغض النظر عما إذا كانت الغلبة الظاهرية هنا للرؤية الشكلية أو اللاهوتية، فإن مضمونها الواقعي والفعلي يقوم في تحويل العقيدة الدينية الأيديولوجية إلى عقيدة ثقافية سياسية، فيُمكن تفسير ذلك والتأسيس له من خلال ما نُسميه بالاختلاف في الدين والنفسية والعقل الذي يميز النمط الثقافي الروسي وأفاق تثبيتهُ وتقويتهُ عن غيره وبالأخص عن النمط الأوربي، أي تبعاً لذلك أظهار الثابت والمُتحول في السياسة الروسية والاوربية، ففي مجال الاختلافات في البنية النفسية نسعى للبرهنة على أن للشعوب السلافية الروسية بُنيتها النفسية الخاصة التي تختلف أختلافاً كبيراً عن البنية النفسية الأوربية، وهذا الأختلاف ليس إلا عنصراً واحداً من ثلاثة عناصر أو مُكونات جوهرية بهذا الصدد وهي كل من المُكون الإثنوغرافي والذي تنعكس فيه خصوصية النظام النفسي للشعوب، وعنصر المبدأ الأخلاقي الأعلى الذي يستحيل بدونه البناء الحضاري، ولهذا المبدأ تجليات مُتنوعة في العلوم والفنون والنظام الاجتماعي، وأخيراً عنصر المسار التاريخي الخاص، وهذه كُلها تُحدد طبيعة الأختلاف بين الشعوب. من هنا يتم وضع كُل ذلك في صُلب التحليل التأريخي والفلسفي من أجل البرهنة على خصوصية الشخصية السلافية، فعندما نبحث عن تحديد في السمات الأساسية للإختلافات الإثنوغرافية بين الشعوب السلافية والجرمانية، فإن أول ما نواجههُ هُنا هو الفارق الفيزيولوجي الذي وفقا لتصورات بعض علماء الأنثروبولوجيا يكشف عن الخطوط الحادة والمُتميزة بين القبائل السلافية من جهة والقبائل الجرمانية والرومية من جهة أخرى، غير إن الخلل الفكري والنهائي بهذا الصدد يقوم في أن علماء الفيزيولوجيا والإثنوغرافيا الأوربيين يحاولون البرهنة من خلالها على دونية الشعوب السلافية، وإنها في نهاية المطاف ليست إلا مادة إثنوغرافية وبالتالي تقع في أدنى درجات السُلم الأنساني والثقافي، وما هي إلا أستفاضة لإستعراض النظريات الأوربية بهذا الصدد، لكي نجد فيها مُجرد تقسيمات مُصطنعة والسبب هو أنها تعتمد على مبدأ جمع المُختلف وتمزيق المُتوحد، ووفقاً لبحثنا في هذا المضمار توصلنا إلى الضد من هذا المبدأ ونظرياته الأوربية المُتطرفة الغير مُتجردة قيمياً في عرض نتائج موضوعية، فهناك نظرة من زاوية آخر في الرؤية تجاه السمات المُتخلفة للأقوام، والتي تُميز بشكل فعلي خصائص الطابع القومي أو الوطني، وانطلاقاً من ذلك نستعمل أسلوب وفهم آخر يتجاوز أسلوب التوصيف الظاهري والجزئي، بمعنى يتم البحث عن السمات والصفات الخاصة التي تظهر في حياة الشعب أو الأمة لفترة تاريخية طويلة وتتسم بقدر من الثبات والعمومية الى ان تصبح نمط ثقافي يحتذى به من قبل الأجيال اللاحقة، ويُمكن حصرها في العديد من الأشياء منها: إنها ميزة مُشتركة لجميع الناس بإستثناء حالات نسبية، كما وإن هذه السمة ثابتة ومُستقلة عن الظروف الطارئة والمؤقتة ودرجة التطور، فضلاً عن إن لهذه الميزة أهمية قُصوى لا سيما وأنها تطبع النشاط التاريخي للشعب أو الأمة، لذلك يمكن ان نعتبر هذه الصفة أو السمة الأخلاقية الإثنوغرافية للشعب هي بمثابة تعبير عن السمات الأساسية لنظامه النفسي بأكمله، فالسمة العامة لشعوب النمط الرومي الجرماني(الأوربي) هي صفة العنف الناتج بدوره عن احساسها بالعلو على غيرها، مما يُحدد بدوره طريقة تفكيرها ورؤيتها لمصالحها الخاصة، والتي تسعى دوماً لفرضها بالقوة على كل من يخالفها، أعتقاداً منها بأفضليتها وعلوها على الآخرين، ولم يجدوا في سلوكهم هذا أي حرج أخلاقي على العكس أنهم يعتبرون ذلك أمراً طبيعياً وأن الأدنى منهم ينبغي القبول به باعتباره هبة ونعمة، وترانا نعثر على مظاهر هذه النفسية في كل شيء وموقف. إذ أننا نشاهدها في الدين بهيئة تعصب وتشدد ضد الآخرين، فقد سالت في أوروبا سيول من الدماء بسبب الخلافات الدينية والتعصب لها، بل إننا نعثر على هذه الصفة في طبيعة التغير الذي حصل في نوعية الدين النصراني، عندما تحولت المسيحية الأصلية من شكلها الأرثودوكسي إلى كاثوليكية بما يستجيب لخصائص الشخصية الرومية الجرمانية. ليس ذلك فحسب بل إن تاريخ النمط الثقافي الرومي الجرماني هو سلسلة من حلقات العنف، وذلك لأن الشخصية الأوربية لا تريد معرفة أي شيء باستثناء قناعتها الخاصة، أما القول بأن كُل هذه الأفعال هي من الماضي وأنها كانت نتيجة الهمجية القديمة أستناداً إلى أن أوروبا المُعاصرة سواء البروتستانتية منها والكاثوليكية تقدم مثالاً على التسامح الديني وعدم التدخل في شؤون الضمير الإنساني، إن ذلك يُعد صحيحاً إلى حد ما، غير أن القضية أكثر تعقيداً مما تبدو في الظاهر، وذلك لأن هذا التغير الذي يجري الحديث عنه قد جرى بعد أن أخذ الاهتمام بالدين يفقد قيمته وتحول إلى شيء لا قيمة له بالنسبة لاهتمامهم مُقارنة بفكرة المصالح، بمعنى أنهُ بعد أن أخذ الدين يفقد قيمته الاجتماعية السياسية عندهم، وبدأ ينحصر ضمن أهتمام العائلة فقط، الأمر الذي جعلهُ يبدو أكثر تسامحاً كما يقول المثل الساري عندهم: “نعطي لله ما لا حاجة لنا به”.
حتى بعدما تحول الاهتمام الرئيسي للدول الأوروبية بعد الحمى الاستعمارية صوب قضايا الحرية المدنية والسياسية، فإن ذلك لم يقلل ولم يذلل الطابع العنفي لشخصية الشعوب الأوربية بل قاموا باظهارها بطُرق أخرى موجهة بشكل خارجي على الشعوب الأخرى او بطرق التجارة المُحرمة، إذ أخذت المقصلة عملها بلا توقف وإغراق المُجتمعات بطوفان الدماء والحروب الخارجية التي أخذت تُبشر بحد السيف بالمساواة والأخوة والحرية كما كان الحال بالنسبة لنشر النصرانية زمن شارلمان بقوى الفرسان وهذه كُلها وكثير غيرها مُجرد مؤشرات على حالة التعصب والعنف عبر فرض الأفكار والمصالح الخاصة بالقوة أيا كان ثمنها، وهذا الأسلوب يظهر في أي نمط آخر من الاهتمام الأوربي، حيث أننا نعثر في كُل مرة على صيغة جديدة من التعصب والعنف، وعادة ما يتخذ هذا السلوك أشكالاً مُتنوعة، غير أن مضمونها يبقى كما هو، ففي أوائل الأربعينيات من القرن الماضي نجد ان إنجلترا تشق طريقها إلى الصين بالمدافع عبر تجارة المخدرات، فان الغاية عندهم تبرر الوسيلة، فهذا يُعد عنف يتخذهُ التجار الذين يُعدون مُتحضرين؟! على الرغم من أنهم يجبرون شعباً مُسالماً ومحترماً بعظمة تاريخهُ، ويسعون بهذه الوسيلة على تخريبهُ جسدياً وروحياً من أجل مصالح تجارية بحتة.
عندما نُقارن الشخصية الأوربية بالروسية، فإننا نسعى للبرهنة على أن تاريخ روسيا لهُ نمط ثقافي آخر يترتب عليه نمط سياسي مُختلف، فقد كان للدين بالنسبة للشعب الروسي موقعهُ الخاص في كل تاريخه، فهو لم يكن بحاجة إلى تبشير الموسوعيين الأوربيين لكي ينعم بفكرة التسامح، وذلك لأن التسامح كان مميزاً لروسيا بما في ذلك في أقسى أوقاتها، وإذا كان بالإمكان العثور في التاريخ الروسي نفسه على بعض ملامح التعصب الديني، والتي لا معنى لتبريرها اذ إنها تبقى بسيطة ولا تُقارن بما جرى في التاريخ الأوربي، وهنا علينا بهذا الموضع ان نميز بين نوعين من الاضداد في التاريخ الروسي، حيث أن لكُل منهما طابعهُ الخاص، الأول قبل بطرس الأول “بطرس أليكسيفيتش” والثاني بعده. والأول كان أضطهاداً دينياً، بينما الثاني كان الاضطهاد سياسياً، كما تجدر في الوقت نفسه الإشارة إلى أن الشعب الروسي لم يتعاطف أطلاقاً مع اضطهاد ذوي الاعتقادات النصرانية القديمة ولم يُشارك فيها أطلاقاً، بل قامت بتنفيذهُ قوة الدولة؛ وهذا دليل على ان الشعوب السلافية بطبيعتها خالية من عنف الشخصية المميز للشعوب الرومية الجرمانية، التي لم تؤثر فيها الحضارة سوى بتغيير طريقة العنف من شكل إلى آخر، وقد يكون تاريخ الروس نموذجياً من حيث كشفه عن البُنية النفسية للشعب الروسي، وهو ما يُحقق أستقلالهم السياسي وحريتهم ومن ثم مقدمات ازدهارهم ضمن وحدة وسياق وتطور النمط الثقافي السلافي العام، بل ودفع ذلك الى المدى الجيوسياسي الثقافي العالمي عندما شدد على أن حرية السلافيين والشعوب الأخرى المتحالفة بينها مع روسيا سوف يضمن الوحدة السياسية والحفاظ على النفس، ومن ثم يكون ذلك رافداً أضافياً كبيراً في تحولها إلى قوة قادرة على أن تكون قوة مُعارضة وعائقاً كافياً أمام السيطرة العالمية لأوروبا، كما أنها الضمان الضروري في الوقت نفسه للحفاظ على التوازن العالمي، وهي كذلك المعقل الوحيد ضد الهيمنة العالمية لأوروبا وبالتالي، فإن هذا التحالف الذي تم الإشارة إليه لن يشكل تهديداً لأمن الشعوب، بل هو إجراء دفاعي محض ليس فقط في الدفاع عن المصالح السلافية، ولكن أيضاً المصالح الكونية بشكل عام والمسألة الشرقية بشكل خاص، حيث أن ذلك يجعل من خوض النضال إلى جانب الإرادة، أمراً محتوماً في المُستقبل القريب.
مبدعة دائما دكتورة مها