تقارير منوعة

هذا ما ينبغي أن تعرفوه.. انطباعات جندي احتياط في غزّة

هذا الأمر لن يُمحى في المائة عام القادمة. ومهما حاولت إسرائيل الإخفاء، التعتيم والتمويه ـ الدمار في غزة هو الذي سيُعرِّف، منذ الآن، حياتنا وحياة أولادنا. شهادةٌ ودليلٌ على العربدة والفلتان الجامحين، من غير قيود. واضح لنا جميعًا، حتى الجندي الأخير، أن القيادة لسياسية لا تعرف كيف تستمر وتمضي قُدُمًا. لا مكان للتقدم ولا قدرة سياسية على التراجع والانسحاب”.

تحت هذا العنوان نشرت “هآرتس” اعترافات مطوّلة كتبها بنفسه أحد جنود الاحتياط الذين شاركوا في العملية البرية في لبنان وفي قطاع غزة خلال السنة الأخيرة ، بدون الافصاح عن اسمه بحسب رغبته يوم 27/11، جاء فيها: “الأمر المفاجئ حقًا هو السرعة التي أصبح فيها كل شيء طبيعيًا ومنطقيًا. بعد بضع ساعات، تجد نفسك تحاول جاهدًا تكوين انطباع عن مدى الدمار، تسرّ إلى نفسك جُمَلًا من قبيل “يا له من شيء مجنون”، لكنّ الحقيقة هي أنك تعتاد على مناظر الدمار بسرعة فائقة. يصبح الأمر عاديًّا، مُبتَذَلًا ورخيصًا. كومة أخرى من الحجارة. يبدو أن هذا كان مبنى لمؤسسة رسمية، وهذه كانت بيوتًا سكنية، والمنطقة هذه كانت حَيًّا. أينما ولَّيْتَ وجهَك، في أي اتجاه نظرتَ، أكوام من الحديد، الرمل، الخرسانة والحجارة. زجاجات فارغة من المياه (مياه “عيدِن”) والمساحيق. على امتداد الأفق. حتى البحر. تنجذبُ الأنظار إلى بناية لا تزال واقفة، صامدة كما كانت. (لماذا لم يدمّروا هذه البناية تحديدًا؟)، سألتْ شقيقتي على واتس أب بعد أن (أرسلتُ إليها صورة)، وكذلك أضافت (لماذا دخلتَ إلى هناك، بحق الجحيم؟). لماذا أنا هنا؟ هذا أقل إثارة للاهتمام. لستُ أنا الموضوع هنا. وهذه، أيضًا، ليست لائحة اتهام ضد الجيش الإسرائيلي. ثمة لهذا الشأن مكان في مواقع أخرى، في افتتاحيات الصحف، في المحكمة الدولية في لاهاي، في الجامعات الأمريكية، في مجلس الأمن الدولي”.

وأضاف: “أمّا المهمّ هنا فهو أن نعكس الصورة للجمهور الإسرائيلي. كي لا يقولوا، لاحقًا، إنهم لم يعلموا. أردتُ أن أعرف ما يجري هنا. هذا ما قُلتُه لعدد لا يُحصى من الأصدقاء الذين سألوني: (لماذا دخلتَ إلى غزة؟). عن الدمار، ليس هنالك الكثير مما يمكن قولُه. فهو موجود في كل مكان. إنه يقفز إلى العين بمجرد الاقتراب، بطائرة دون طيّار، ممّا كان في السابق أحياء سكنية: حديقة مُعتَنى بها جيدًا محاطة بسورٍ مكسور ومنزل مُحطَّم. طاولة، أرجوحة. كوخٌ مؤقت ذو سقفٍ من الصفيح خلف الزقاق. نقاط داكنة في الرمل، الواحدة بجانب الأخرى. كان هنا بستان، كما يبدو. أشجار زيتون، ربما. إنه موسم قطف الزيتون الآن. وها هنا حركة ـ شخص يتسلق أكوام الردم، يجمع أشجارًا على الرصيف، يحطّم شيئًا ما بواسطة حجر. كل هذا بنظرة من الجوّ، من الطائرة بدون طيّار. كلّما اقتربنا من المحاور اللوجستية ـ نتساريم (المحور الأوسط)، كيسوفيم وفيلادلفيا (صلاح الدين) ـ نرى عددًا أقلّ فأقلّ من المباني التي ما زالت قائمة على حالها. الدمار هائل، وهو موجود هنا ليبقى. وهذا ما ينبغي أن تعرفوه. هذا الأمر لن يُمحى في المائة عام القادمة. ومهما حاولت إسرائيل الإخفاء، التعتيم والتمويه ـ الدمار في غزة هو الذي سيُعرِّف، منذ الآن، حياتنا وحياة أولادنا. شهادةٌ ودليلٌ على العربدة والفلتان الجامحين، من غير قيود. كتب أحد الأصدقاء على حائط (غرفة الحرب): (الهدوء سيُقابَلُ بالهدوء، نوفا مهرجان نوفا الموسيقي في رِعيم/ غلاف غزة) ستُقابَل بنكبة). قادة الجيش الإسرائيلي تبنّوا ما كُتِب. من وجهة النظر العسكرية، التدمير أمر لا مفرّ منه. القتال في منطقة حضريّة مكتظة بالسكان في مواجهة خصم مجهّز جيدًا يعني تدمير المباني على نطاق واسع جدًا، أو موت الجنود بصورة محققة. وإذا كان يتعين على قائد اللواء الاختيار ما بين حياة الجنود الذين تحت إمرته وبين تسوية المباني بالأرض، فإن طائرات إف ـ 15 المحمّلة بالقنابل سوف تبدأ بالتحرك على مسار الإقلاع في (قاعدة نفاطيم)، وسوف تُدكّ سبطانة المدفعية. لن يتحمّل أحدٌ أية مُخاطرة بعد الآن، إنها الحرب. أصبحت القدرة على القتال بهذه الطريقة ممكنة بفضل تدفق الأسلحة والذخائر التي يتلقاها الجيش الإسرائيلي من الولايات المتحدة، والحاجة إلى السيطرة على المنطقة بواسطة الحد الأدنى من عديد القوات. هذا صحيح بالنسبة لقطاع غزة وصحيح أيضًا بالنسبة للبنان. الفارق الأساسي بين لبنان والجحيم الأصفر من حولنا هو المواطنون المدنيون. على عكس القرى في جنوب لبنان، المواطنون لا يزالون هنا. يجرجرون أنفسهم من بؤرة قتالية إلى أخرى، يحملون حقائب ظهر مضغوطة وجركنات المياه”.

وتابع قائلاً: “تمشي الأمهات مع أطفالهن ببطء على طول الشارع. إن كان لدينا، نعطيهم الماء. القدرات التكنولوجية التي طوّرها الجيش الإسرائيلي خلال هذه الحرب مثيرة للإعجاب. شدّة النيران، استخدام النيران الدقيقة وجمع المعلومات الاستخبارية بواسطة طائرات من دون طيار. وتوفر هذه كلها ثقلًا موازِنًا للعالم التحتيّ الذي بنته حماس وحزب الله على مدى سنوات. تجد نفسك تنظر من بعيد، طوال ساعات، نحو مواطن يجرّ حقيبة لبضعة كيلومترات على طريق صلاح الدين. الشمس حارقة فوقه. وأنت تحاول أن تفهم: هل هذه عبوة ناسفة؟ هل هذه بقايا حياته؟ تنظر إلى الأشخاص الذين يتجولون قرب مجمّع الخيام في وسط المخيم، تبحث عن عبوات ناسفة وتحدّق في جداريّات باللون الرماديّ الفحميّ. هنا، على سبيل المثال، رسم فراشة. واضح لنا جميعًا، حتى الجندي الأخير، أن القيادة لسياسية لا تعرف كيف تستمر وتمضي قُدُمًا. لا مكان للتقدم ولا قدرة سياسية على التراجع والانسحاب. كنتُ، هذا الأسبوع، راصدًا فوق مخيم للاجئين، بواسطة طائرة بدون طيّار. شاهدتُ امرأتين كانتا تمشيان جنبًا إلى جنب، يدًا بيد. شاهدتُ شابًا يدخل إلى منزل شبه مُدمَّر، ثم يختفي. ربما كان عضوًا في حماس أتى لنقل رسالة إلى نفق المخطوفين، عبر فتحة خفيّة؟ تابعتُ، من ارتفاع 250 مترًا، راكب دراجة هوائية يسير على ما كان ذات مرة شارعًا في طرف الحيّ ـ نزهة ما بعد الظهر في قلب الكارثة. عند أحد المفترقات، توقف راكب الدراجة الهوائية بجانب منزل خرج منه بضعة أطفال، ثم واصل هو التوغل نحو قلب مخيم اللاجئين نفسه. جميع الأسطح مليئة بالثقوب من جرّاء القصف. على جميعها براميل مياه زرقاء اللون لتجميع وتخزين مياه الأمطار. في حال العثور على برميل كهذا في الشارع، يجب نقله على الفور إلى غرفة الحرب ووضع علامة عليه باعتباره عبوة ناسفة محتملة. هنا رجلٌ يخبز أرغفة الخبز. بجانبه شخص نائم على فرشة. ما هي قوة الاستمرارية التي تبقي الحياة مستمرة هنا؟ كيف يستيقظ شخص في قلب هذه الفظاعة ويجد القوة لينهض ويقوم، ليعثر على فرشة وليحاول الصمود والبقاء على قيد الحياة؟ أي مستقبل يقترح عليه العالم؟ الحرارة، الذباب، الرائحة الكريهة والمياه المتعفنة. يومٌ آخر قد مضى.  أنتظرُ كاتبًا يأتي ويكتب عن هذا، مصوّرًا يوثق، لكن ليس هنالك سواي أنا فقط. الجنود الآخرون، إن كانت لديهم أفكار هرطقة وكُفر، يحتفظون بها لأنفسهم فقط. لا يتحدثون في السياسة لأن هذا ما طلبوه منهم، لكنّ الحقيقة هي أن هذا لا يهمّ شخصًا قد أمضى بالفعل 200 يوم من الخدمة العسكرية الاحتياطية في هذه السنة. منظومة الجيش الاحتياطي تنهار. أولئك الذين يأتون، يصِلون غير مبالين، تقلقهم مشاكلهم الشخصية أو أمور أخرى. الأولاد، الفصل من العمل، التعليم، الزوجة. أقالوا غالانت. وصل خبز الحَمام (لخمنيوت) مُعبّأ بشرائح صدر الدجاج (شنيتسل). الوحيدون الذين يتأثرون هنا بأي شيء هم الحيوانات. الكلاب، الكلاب. يهزّون ذيولهم، يركضون في فرق ضخمة، يلعبون مع بعضهم بعضًا. يبحثون عن بقايا الطعام التي تركها الجيش. هنا وهناك تجرؤ الكلاب أيضًا على الاقتراب من المركبات في الظلام، تحاول سحب كرتونة الكابانو ويتم صدّها وإبعادها بوابل من الصرخات. وهناك الكثير من الجِراء، أيضاً. خلال الأسبوعين الأخيرين، يبدي اليسار الإسرائيلي قلقًا حيال تمركز الجيش الإسرائيلي على المحاور العرْضيّة في قطاع غزة. محور نتساريم (المحور الأوسط)، على سبيل المثال. ما الذي لم يُقَل عنه؟ أنه تم شقّه وتعبيده، أنه قد أنشِئت عليه قواعد عسكرية بمستوى خمس نجوم. وأنّ الجيش الإسرائيلي هناك لكي يبقى، وأنه على أساس هذه البنى التحتية كلها، سوف يُعاد إحياء مشروع الاستيطان في قطاع غزة من جديد“.

وخلص للقول: “أنا لا أستهين بهذه المخاوف. ثمة ما يكفي من المجانين الذين ينتظرون مثل هذه الفرصة. لكنّ محوريّ نتساريم وكيسوفيم هما منطقتا قتال تحيط بهما تجمّعات هائلة للسكان الفلسطينيين. كتلة حاسمة من اليأس، الجوع والضائقة. هنا ليس الضفة الغربية. الاستقرار في المحور هو تكتيكيّ، وأكثر من كونه لغرض الاستيلاء المدني على المنطقة، فإنه مُعدٌّ لضمان روتين الإقامة والحراسة للجنود المُنهَكين. القواعد والمواقع العسكرية مكوّنة من مبانٍ متنقلّة يمكن تفكيكها وإخلائها في غضون أيام قليلة على متن قافلة من الشاحنات. وهذا قابل للتغيير بالطبع. من الواضح لنا جميعًا، من قيادة غرفة الحرب حتى الجندي الأخير، أن القيادة السياسية لا تعرف كيف تواصل وإلى أين تسير. ليست هنالك أهداف يمكن التقدم إليها وليست هنالك قدرة سياسية على التراجع والانسحاب. باستثناء جباليا، ليس هنالك قتال في أي مكان تقريبًا. في أطراف المخيمات فقط. وحتى هذا، هو جزئي فقط، خشية وجود مخطوفين. المشكلة سياسية. لا عسكرية ولا تكتيكية. ولذلك، من الواضح للجميع أنه سيتم استدعاؤنا إلى جولة أخرى ولتنفيذ المهمات نفسها تمامًا. سيستجيب جنود في الاحتياط، لا شك، لكن بأعداد أقل. أين يمرّ الحد الفاصل بين فهم (التعقيد) وبين الانصياع الأعمى للأوامر؟ متى كسبتَ الحق في رفض أن تكون جزءًا من جريمة حرب؟ هذا أقل شأنًا وأهمية. الأكثر شأنًا وأهمية هو متى يستيقظ التيار المركزي الإسرائيلي، متى ينهض قائد ويشرح للمواطنين عن العمل المخزي الذي تقوم به، ومن سيكون الشخص الأول الذي يعتمر القبعة الدينية (الكيباه) قبل التنديد في مجلس الأمن، لأنه قبل لاهاي، وقبل الجامعات الأمريكية كان يوصف بالخائن للأمن كون هذا الذي يجري أولاً وقبل أي شيء آخر هو شأن داخليّ يخصّنا نحن، ويخص مليونيّ فلسطيني فقط”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى