
انعقدت في القاهرة، يوم الثلاثاء الماضي، قمة عربية استثنائية حملت اسم “قمة فلسطين”، كان الهدف الأساسي والوحيد من انعقادها مناقشة “خطة لإعمار غزة من دون تهجير سكانها”، بادرت مصر إلى إعدادها، رداً على خطة أميركية استهدفت “الاستيلاء على قطاع غزة وتهجير سكانه”، كان دونالد ترامب أعلنها في مؤتمر صحافي عُقد في البيت الأبيض، خلال زيارة قام بها بنيامين نتنياهو للولايات المتحدة الأميركية منذ عدة أسابيع.
ولأنه سبق للخطة المصرية أن طُرحت ونوقشت وأُقرت في “قمة تشاورية مصغرة”، عُقدت في الرياض، يوم الـ21 من شباط/فبراير الماضي، واقتصرت المشاركة فيها على الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن، كان من المتوقع أن يتم إقرارها بسهولة من جانب القمة العربية الموسعة، التي أشرنا إليها سابقاً. لكن، هل يعني ذلك أن العالم العربي أصبح لديه الآن خطة بديلة قابلة للتنفيذ في أرض الواقع، أو أن الخطة الأميركية الإسرائيلية، التي استهدفت تهجير الفلسطينيين، وربما ضم الضفة الغربية ووضعها تحت السيادة الإسرائيلية في الوقت نفسه، فشلت، وتم طي صفحتها فعلاً؟
الواقع أن ممارسات النظام الرسمي العربي، خلال الأشهر الخمسة عشر الأخيرة، لا تسمح باستخلاص مثل هذه النتيجة المتسرعة.
فحين قامت “إسرائيل” بالرد على عملية “طوفان الأقصى”، عبر شن حرب إبادة جماعية على قطاع غزة، بالتوازي مع تصعيد العمليات العسكرية ضد المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية، لم يحرك النظام الرسمي العربي ساكناً، على رغم ما تكبده الشعب الفلسطيني فيهما من خسائر بشرية ومادية غير مسبوقة.
ففي قطاع غزة، كان التدمير أكبر من أن يوصف، بحيث شمل المساكن والمدارس والجامعات والمستشفيات والمساجد والكنائس. وبلغت الخسائر البشرية ما يقرب من ربع مليون نسمة بين قتيل وجريح ومفقود، معظمهم من النساء والأطفال، وهو رقم ضخم، يكاد يوازي حوالي 10% من إجمالي سكان القطاع. أمّا في الضفة الغربية فتم تدمير عدد لا يستهان به من الأحياء السكنية في الأغلبية العظمى من مخيمات اللاجئين، وصل في بعضها إلى ما يقرب من 90% من إجمالي المساكن، وتم تجريف كثير من الشوارع وإزالة البنى التحتية، كما تم تهجير عدة آلاف من السكان.
اكتفى النظام العربي الرسمي، طوال هذه المدة، بإصدار بيانات شجب وإدانة لا تسمن ولا تغني من جوع. فلم يقم باتخاذ إجراء عملي واحد يعبّر فيه عن غضبه واحتجاجه على ما تقوم به “إسرائيل” من انتهاكات، كأن يطلب إلى الدول العربية، التي تقيم علاقات دبلوماسية بـ”إسرائيل”، قطع هذه العلاقات وسحب سفرائها من “تل أبيب”.
ولم يبادر إلى ملاحقة “إسرائيل” في المحاكم الدولية، تاركاً جنوب أفريقيا تكافح وحدها على هذا الصعيد من دون أن يتمكن من تقديم أي نوع من الدعم أو المساندة إليها، بل إنه لم يجرؤ حتى على ممارسة أي نوع من الضغوط لمنع “إسرائيل” من استخدام التجويع سلاحاً لتركيع الشعب الفلسطيني، ولحملها على السماح بإدخال المساعدات الإنسانية، التي راحت قوافلها تتكدس أمام عينيه عند معبر رفح. صحيح أن مصر وقطر أدّتا دوراً مفيداً، حين نجحتا في توظيف العلاقة الخاصة التي تربطهما بالولايات المتحدة للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار من ثلاث مراحل، لكن عجز النظام العربي عاد ليتجلى من جديد حين انتهكت “إسرائيل” هذا الاتفاق، وامتنعت عن الدخول في مفاوضات لتنفيذ المرحلة الثانية.
غير أن الإنصاف يقتضي منا أن نعترف بأن مصر والأردن لعبا دوراً محورياً في الجولة الراهنة، حين أدركا على الفور أن حرب الإبادة الجماعية، التي تشنها “إسرائيل” على قطاع غزة تستهدف إخلاءه من سكانه، ودفع الفلسطينيين إلى النزوح القسري إلى سيناء، وأن التصعيد العسكري في الضفة يستهدف دفع أكبر عدد ممكن من سكانها نحو اللجوء القسري إلى الأردن، وأعلنا على الفور رفضهما القاطع لهذه المخططات الإسرائيلية، غير أن الإنصاف يقتضي أيضاً أن نعترف بأن النظام الرسمي العربي لم يستشعر الخطر ويبدأ في التحرك للتصدي لخطط التهجير، إلا بعد أن تبناها ترامب رسمياً، وقام بإعلان مشروعه للاستيلاء على غزة وتحويلها إلى “ريفييرا عالمية”، ومساندته للخطط الإسرائيلية الرامية إلى ضم الضفة الغربية، وهو ما يفسر مبادرة السعودية إلى المسارعة في الدعوة إلى قمة تشاورية في الرياض، ومبادرة مصر إلى المسارعة في الدعوة إلى قمة استثنائية موسعة في القاهرة. تجدر الإشارة هنا إلى أن “خطة ترامب للإعمار والتهجير” انطوت على بعدين، أحدهما فني، والآخر سياسي.
ففي بعدها الفني، بنى ترامب خطته على فرضيات، مُفادها أن قطاع غزة دُمر بالكامل، ثم أصبح مكاناً غير قابل للحياة، وأن إعماره سيستغرق فترة طويلة، تتراوح من 8-15 عاماً، يصعب خلالها ترك السكان بلا مأوى وبلا خدمات، وخصوصاً أن مساحته صغيرة وتكتظ بسكان عانوا كثيراً حروباً لم تنقطع. ومن هنا، صعوبة إعماره من دون ترحيل سكانه وتوطينهم في أماكن فسيحة تسمح لهم بالعيش في هدوء وأمان.
ولأن مصر قررت أن تتصدى بنفسها لتفنيد هذا البعد الفني، كان عليها أن ترد بخطة معمارية مفصلة ومتكاملة، تؤكد، من خلالها، عدم صحة الفرضيات التي بنى عليها ترامب خطته، وتثبت بالدليل العملي أن إعمار القطاع ممكن من دون تهجير سكانه، وهو ما قامت به فعلاً من خلال إعداد خطة متكاملة لإعمار القطاع من دون حاجة إلى ترحيل سكانه، خلال فترة لا تتجاوز خمسة أعوام، وهو ما قامت به فعلاً.
أما في بعدها السياسي، فبدا واضحاً تماماً أن ترامب قرر تبني خطة اليمين الإسرائيلي المتطرف، الرافض لحل الدولتين، والساعي لضم الضفة الغربية، وإعادة احتلال قطاع غزة.