صحافة وآراء

استراتيجية العلاقات الروسية السورية: على خلفية الاعتداء الإرهابي على قاعدة حميميم

رامي الشاعر

لم تكن العلاقات الروسية السورية يوماً مجرد علاقة عابرة أو محكومة بطبيعة النظام السياسي لكلا البلدين، أو تحركها الظروف الدولية أو الإقليمية المتغيرة، بقدر ماهي هوية سياسية وثقافية، وسيرورة تاريخية لاستراتيجية ثابتة في إطار علاقة جدلية تعكس طبيعة المصالح الحيوية للبلدين في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، بل وتتعزز أكثر فأكثر مع وقوف روسيا المبدئي بشأن قضية العرب المركزية فلسطين، والصراع الإسرائيلي العربي، وعلى وجه الخصوص، الأراضي السورية المحتلة وهضبة الجولان. الأمر الذي يجعل من طبيعة العلاقات الروسية السورية ذات طبيعة ترقى إلى التحالف والشراكة الاستراتيجية منذ أيام الاتحاد السوفياتي السابق إلى يومنا هذا.

لقد أضفت روسيا مع سورية نوعاً من التوازن الدولي، الذي حال دون صراعات إقليمية كبرى، خصوصاً في مراحل ما بعد التحيّز التام لإسرائيل من قبل الولايات المتحدة، التي جعلت من إسرائيل مخفراً أمامياً لها في الشرق الأوسط، وخصوصاً في مواجهة سورية، وقد ظهر ذلك جلياً خلال حرب السادس من أكتوبر 1973، الأمر الذي دفع بالاتحاد السوفياتي السابق، وتحدياً للولايات المتحدة، بتقديم كل وسائل الدعم العسكري والسياسي لمواجهة إسرائيل، ونذكر في هذا السياق “مركز الدعم التقني للإسطول البحري السوفيتي” على ساحل المتوسط في مدينة طرطوس السورية الذي تم إنشاؤه منذ بداية ستينيات القرن الماضي، في مواجهة الدعم اللامحدود الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل.

على الصعيد الاقتصادي، منذ ستينيات القرن الماضي ركّز الاتحاد السوفياتي على تمتين البنى التحتية السورية، وبناء ركائز اقتصادية للمحافظة على الأمن الاقتصادي السوري، فبنيت السدود في العديد من المحافظات السورية، ومن أهمها سد الفرات، الذي أسس لأهم المشاريع المائية لتوفير الكهرباء لكل المدن السورية، بل وأصبحت سورية من الدول المصدرة للكهرباء في المنطقة العربية، كما أنشئت معامل الألمينيوم، والسكر، والكونسروة، ومصانع الحديد والصلب، وفي بداية السبعينيات مولت روسيا سورية مشاريع النفط، والخطوط الحديدية.

أستعيد هذه الذاكرة بالتزامن مع الحادثة المؤسفة التي نفذها جهلة بطبيعة العلاقات الروسية السورية، حين أقدم مسلحان منذ أيام على القيام بعمل إرهابي استهدف قاعدة حميميم الجوية الروسية غربي سورية، ما أسفر عن مقتل جنديين.

وقد استهدف الاعتداء الإرهابي القاعدة الروسية التي تأوي عدداً كبيراً من العائلات السورية من المدنيين الذين لجأوا إليها هرباً من الأوضاع الأمنية المتوترة في الساحل السوري، لا سيما في أعقاب الهجوم الإرهابي الذي أسفر عن نحو ألف قتيل من الطائفة العلوية منذ أشهر.

بدورها تبذل السلطات السورية جهوداً كبيرة لمعرفة الجهة التي تقف وراء ذلك الاعتداء، وتجري في الوقت الراهن تحقيقات لمحاسبة المتورطين في إراقة الدماء في صفوف الشعب السوري الأعزل.

من جانبه أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع مرسوماً قبل أيام لتمديد عمل لجنة التحقيق شهرين إضافيين، ما يعكس اهتماماً مباشراً من الشرع بالقضية ومثيلاتها، ومتابعته الدقيقة لسير التحقيقات.

ولا أستبعد أن يكون الاعتداء الإرهابي الأخير قد وقع نتيجة لاستياء بعض الأطراف هنا وهناك من عمل لجنة التحقيق، أو من مرسوم تشكيلها بالأساس، أو لإرباك جهود التحقيق، خاصة أن اللجنة توصلت إلى نتائج أولية تحدد بشكل واضح المسؤولين عن أحداث الساحل السوري منذ أشهر، وهو ما يجسد اهتماماً حقيقاً وعدم تهاون من جانب الحكومة السورية الجديدة في محاسبة المتورطين في مثل هذه الأحداث الإرهابية. ولا أتوقع أن تثني مثل هذه الهجمات، ومثل هذا الإرهاب الحكومة السورية عن استكمال المسار القضائي، في مرحلة يحتاج معها جميع السوريين إلى التكاتف من أجل إنجاح المرحلة الانتقالية كواجب وطني لعبور سورية إلى بر الأمان، والحفاظ على سيادتها ووحدة أراضيها.

إن عمليات كهذه لا محل لها من الإعراب سواء في تهديدها لاستقرار سورية ومصالحها الحيوية، أو في خضم العلاقات الروسية السورية التاريخية الاستراتيجية المتينة، ذلك أن تلك العلاقات هي علاقات تربط أبناء الشعبين الروسي والسوري، وروسيا تواصل وستواصل دعم الحكومة السورية في مختلف المجالات، لا سيما في المجالات الاقتصادية والأمنية والدبلوماسية، نظراً لأهمية التعاون الدولي لتجاوز تداعيات الأزمة السورية والعقوبات ضد سورية التي فاقمت من معاناة الشعب السوري.

أعتقد أن جميع محاولات تشويه وضع العلاقات الروسية السورية وسياسات روسيا تجاه سورية ستبوء بالفشل، وأعيد إلى الأذهان كيف أنقذت روسيا سورية فعلياً ثلاث مرات خلال السنوات الماضية.

في المرة الأولى، عندما وقفت أمام خطر اندلاع حرب أهلية وتوسطت لإخراج المقاتلين من ضواحي دمشق إلى إدلب، وكانت المصادمات مع الفرقة الرابعة داخل المدينة ستودي بأرواح مئات الآلاف من الضحايا من سكان دمشق، وستدمر المدينة عن بكرة أبيها.

وفي المرة الثانية، عندما أوقفت تحرك فرقة مدرعة للجيش السوري بتجاه درعا قبل أربعة سنوات، ما كان سيؤدي أيضاً إلى إشعال فتيل حرب أهلية مدمرة في جميع أرجاء سورية.

وفي المرة الثالثة، عندما ساهمت بشكل مباشر في منع نظام بشار الأسد وجيشه من خوض معركة أثناء تحرك التنظيمات المعارضة المسلحة من مناطق إدلب باتجاه حماه، وطلبت من القائمين على النظام مغادرة سورية وإصدار الأوامر للعسكريين بمغادرة المعسكرات بدون سلاح والتزام البقاء في منازلهم، ما سهل تقدم وسيطرة فصائل المعارضة المسلحة على جميع المدن والمناطق السورية دون حدوث أي اقتتال سوري سوري.

إضافة إلى ذلك فقد عملت روسيا جنباً إلى جنب مع إيران وتركيا في إطار مجموعة أستانا للحفاظ على نظام التهدئة وضمان أمن واستقرار مناطق التهدئة الأربعة وكانت تلك من بين المهام الرئيسية لقاعدة حميميم ومركز المصالحة الروسي.

ساعدت روسيا أيضاً في تصفية ووقف تمدد التنظيمات المصنفة دولياً إرهابية، وكل ما يشاع عن تورط الطيران الروسي في تدمير المدن وقتل المدنيين هو دعاية تصب في خدمة الحرب الإعلامية الغربية الهجينة ضد روسيا بهدف تشويه سمعتها.

هنا لابد أن أذكّر الجميع، بأن روسيا لم تتدخل في الحرب السورية إلا بعد خمس سنوات، وبعد أن دخلت البلاد في أتون صراعات داخلية بين الفصائل السورية، وبعد أن أصبح تنظيم داعش هو القوة الضاربة والمسيطرة في سورية، لذلك فالدمار الحقيقي الذي أصاب سورية قد أصابها في الفترة من 2011-2015، قبل أن تصل القوات الروسية إلى البلاد. أما روسيا فقد أسهمت بنشاط وفعالية نحو الأخذ بيد السوريين إلى فكرة الانتقال السلمي للسلطة، فكانت أي روسيا، من أهم الدول التي كتبت القرار 2254، الذي تضمن هيئة الحكم وانتقال كامل الصلاحيات التنفيذية وتأمين نقل السلطة دون اقتتال بين السوريين.

وعلى أساس ذلك، واستناداً للقرار 2254 الذي تضمن تجميع أوسع طيف من السوريين، عقدت روسيا مؤتمر سوتشي للحوار السوري السوري، وساهمت في اللقاءات العديدة عبر سنوات بين المعارضة والنظام، وهو ما أسهم ولا يزال يسهم في نضج الوضع الداخلي ليصبح مستعداً على المستوى الشعبي والعملي وعلى مستوى الإدارات والمسؤولين في داخل النظام السابق وعلى مستوى المعارضة المسلحة؛ كل ذلك من أجل غاية وحيدة أرادتها روسيا وهي إجراء عملية التغيير دون صِدام عسكري، نظراً للاحتقان الشعبي الواسع ضد النظام السابق ومعاناة الشعب السوري وكل ذلك سيدركه الشعب عاجلاً أو آجلاً.

لقد سعت روسيا دائماً إلى رفع العقوبات المجحفة لا على النظام السوري بل على الشعب السوري، ولا أزعم بالقطع أن لروسيا يد في رفع عقوبات “قيصر” عن سورية، لكن روسيا أيضاً لم تكن بعيدة عن نضوج الوضع السوري على هذا النحو وبهذه السلاسة. وقد أصدرت الخارجية الأمريكية مؤخراً إعفاء من هذه العقوبات، ما سيمّكن شركاء الولايات المتحدة والشركاء الدوليين والحلفاء ودول المنطقة من المساهمة بشكل أكبر في إطلاق الإمكانات الاقتصادية لسورية، وهو قرار هام للغاية وجزء من جهود أوسع تبذلها الحكومة الأمريكية لإزالة هيكل نظام العقوبات الذي كان موجهاً بشكل أساسي لإسقاط نظام الأسد، لكنه على أرض الواقع كان عقاباً جماعياً ضد الشعب السوري بأكمله.

الجدير بالذكر هو أن إعفاء الحكومة الأمريكية “السخي” لا يشمل أي عمليات “لصالح أو نيابة عن حكومات روسيا أو إيران أو كوريا الشمالية، أو أي عمليات مرتبطة بنقل أو تقديم سلع أو تقنيات أو برامج أو أموال أو تمويل أو خدمات من أو إلى إيران أو روسيا أو كوريا الشمالية”، ومحدد بـ 180 يوماً، وفقاً لما أعلنه وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو! “وماذا بعد 180 يوماً؟” سيتساءل المستثمرون والشركات التي ترغب في المساعدة والدعم وإنشاء مشاريع في سورية، وسيتخوّف الجميع مما قد يحدث بعد الـ “180 يوماً”، فسورية لا تحتاج لـ 180 يوماً، بل لسنوات كي تتعافى اقتصادياً، وتحتاج إلى قرارات جذرية إلى جانب المساعدات الفورية الدولية الملحة، وإعادة إعمار البلاد يقدرها بعض الخبراء بـ 700 مليار دولار، الأمر الذي تحتاج معه سورية البحث عن علاقاتها الاستراتيجية التاريخية، لا الوقتية أو الطارئة، أو المرتبطة بمساومات وصفقات وقتية أيضاً هنا وهناك.

كذلك فإن ملف الأزمة الأوكرانية المعقد والمشتبك ربما يتجه إلى الحل عاجلاً أو آجلاً، ما سيضخ دماء جديدة في العلاقات الروسية الأمريكية، وهو ما سيسهم في حلحلة الكثير من الأوضاع في كثير من الملفات حول العالم ومن بينها ملف الشرق الأوسط، وتحديداً العمل داخل سورية وضمان الأمن والاستقرار لاستعادة اقتصاد الدولة وإعادة الإعمار. كما أن من مصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل استقرار الوضع في سوريا وفلسطين والشرق الأوسط بشكل عام، ولا يمكن إهمال دور ولا ثقل روسيا وتركيا وإيران في أي تسوية بالمنطقة. لهذا أتوقع أن تكون علاقات الدولة السورية الجديدة متوازنة، تضع نصب أعينها تجارب سابقة في الاعتماد كلياً على الغرب، وتضمن استقرارها الداخلي من خلال استقرار علاقاتها الدولية مع مختلف الأطراف دون تسلط أو إملاءات أو ضغوط من أي منها.

إن العلاقات الروسية السورية هي علاقات شعبين قبل أن تكون علاقات دولتين، وعلاقات ثقافة واقتصاد وعلوم ومعارف قبل أن تكون علاقات سلاح ودفاع، لهذا أتوقع أن تظل تلك العلاقات على وتيرة ثابتة، حتى وإن شابها بعض المطبات هنا وهناك.

كاتب

  • رامي الشاعر

    كاتب ومحلل سياسي روسي من أصول عربية - مستشار لوزراة الخارجية الروسية لشؤون الشرق الأوسط تعتبر مقالاته تعبيراً عن الموقف الروسي شبه الرسمي. السيد رامي الشاعر فلسطيني الأصل ومن عائلة فلسطينية عرفت بنضالها وثقافتها ونهجها الوطني العروبي الاصيل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى