أن تتطاول على المسيح وتنتج أفلاماً مسيئة له وتقدح بالكنائس وبرجالات الدين وحتى “الكتاب المقدّس بعهديْه القديم “التوراة” والجديد “الإنجيل” بنسخه الأربع المعتمدة فهذا أمر مقبول ومتاح في دول الغرب الاستعماري، وأن تتهجّم على الرؤساء والحكومات بمنتهى الوقاحة فذلك حق دستوري مكفول في إطار الديمقراطية والحريات العامّة، وأن وأن… أمّا أن تحاول مجرّد المحاولة للاقتراب من المحرقة “الهولوكست” تشكيكاً أو حتى إعادة دراسة حقيقة مجرياتها بصورة علمية وموضوعية محايدة فتلك جريمة قانونية موصوفة تعود على مُقترفِها بالثبور وعظائم الأمور، فعندها تنتهي الديمقراطية والحريات وكافة الحقوق المنصوص عليها في القوانين والدساتير؟!
وقد انسحبت هذه الجريمة على انتقاد السلوك اليهودي باعتباره عنصرية تجاه ضحايا المحرقة المساكين، ثم كانت جريمة “معاداة السامية”، وانسحبت على مساواة السامية المحتكرة والمختطفة كنَسَب يعود بحسب الإدعاءات التوراتية إلى سام بن نوح بالصهيونية كحركة سياسية علمانية وباليهود كجماعات عرقية مختلفة يجمعها ما يسمي “دين” واحد أسموه “اليهودية”. ثم انسحبت هذه الخلطة الغريبة العجيبة: السلوك اليهودي الفردي، الصهيوني كنهج سياسي،واليهودية كديانة. وأضيف ما يسمى “دولة إسرائيل” ككيان سياسي مختلق يمثّل الثالوث المقدّس اليهودي “السامي” والصهيوني واليهودية، وكلّ ذلك تحت عباءة المحرقة “الهولوكست” التي تستوجب تضامن وتعاطف ودعم ضحاياها وعدم المساس بهم، تعويضاً للمواطن الغربي الذي سلبه النظام الغربي العلماني الشمولي إنسانيته وفطرته، وتذكيراً له بدوام إنسانيته ومشاعره وقِيمه الأخلاقية من خلال ممارسة هذا التضامن والتعاطف والدعم لأولئك الضحايا…
وكي تُقنِع النخب الغربية العامّة بتلك الخلطة، وتجعل من “الهولوكست” أيقونة مقدسة وتشرعنها وتقوْننها، كان لا بدّ لها من الإفتراء والتضليل والدمغجة بما يغطّي على الحقائق التاريخية الموثّقة، ويحجب الكثير من تفاصيل أرشيف الحرب العالمية الثانية والتي لم تُكشف بعد. وقد تجلّى ذلك في اعتبار حصر نهج الإبادة بألمانيا النازية فقط وباستهداف “اليهود” حصراً، علماً أن الحكم النازي استهدف بالإبادة كافة معارضيه وذوي الإعاقة وعديمي الفائدة من الشعب الألماني، ثم الغجر والشعوب السلافية أيضاً. كما أن السلوك الإجرامي النازي الألماني بإبادة الآخر ليس سلوكاً شاذّاً متفرّداً، بل جزءاً أصيلاً من نهجما يُسمّى “الحضارة الغربية” في تعاملها مع شعوب العالم، وحلقة في مسلسل متواصل من جرائم الإبادة التي ارتكبتها، وما “أيقنة الهولوكست” سوى بتر وفصل تعسّفي لهذه الجريمة عن سياق النهج الغربي العام المتكرّروالمتواصل، وتعمية وتغطية مقصودة ومتعمّدة على ما اقترفه هذا الغرب الاستعماري من جرائم إبادة يصعب حصرها والإحاطة بكامل تفاصيلها المروّعة بحقّ باقي شعوب المعمورة خارج القارة الأوروبية، ناهيك عن الجرائم البينيّة داخل أوروبا ذاتها.
لكن جريمة الغرب الاستعماري الكبرى المتواصلة والتي تحاول “أيقنة الهولوكست” حجبها تكمن في جريمته النكراء بحقّ الشعب الفلسطيني منذ قرن ويزيد، وهي ما تعكس حجم التماهي العضوي بين الغرب الاستعماري ومشروع الحركة الصهيونية الاستيطاني القتالي الإحلالي الذي بدأ تكريسه على أرض فلسطين التاريخية ولن يقف أو ينتهي عندها. وهو ما يَتتوّج بأبشع صوره في حرب الإبادة والتطهير العرقي والجرائم ضدّ الإنسانية التي تُرتكب كل لحظة في قطاع غزّة وباقي الأراضي الفلسطينية المحتلّة وفق قرارات الشرعية الدولية ذاتها، أمام مرآى ومسمع العالم أجمع، وبلا كلل او وَجل، لا لشيء سوى لأن “أيقنة الهولوكست” قد كرّست الكيان الصهيوني المجرم فوق القانون الدولي والإنساني، وسمحت له بالإفلات من المساءلة والعقاب، ولا يزال النظام الأحادي القطبية بزعامة الولايات المتّحدة الأمريكية التي تأسس بنيانها فوق جماجم أصحاب الأرض الأصليين يصرّ على دوام هذا الحال، بل ويقاتل في سبيل ذلك…
فمتى سيستفيق المواطن الغربي ويستعيد فطرته الإنسانية، ويُحطّم صنم هذه “الأيقونة المقدّسة”، ليس إنصافاً لضحايا الآخرين فحسب، وإنّما دفاعاً عن حاضره ومستقبله المستباح وقبل فوات الأوان؟؟