صحافة وآراء

تموز البابلي مبعث الحياة ومنبع الثورات “رؤية أنثروبولوجية”

بقلم د. مها أسعد ​

يعد (تموز) الأله الوحيد الذي لم يكن خالداً، تعمدت الثورات على تخليده وجعله منبعاً لها، فالثورات عادة ما تكون تجسيداً لانبعاث الحياة من الموت، تماماً كما يبعث تموز كل عام من رحم مملكة الموت في أعماق الأرض، ويعود إلى حضن الحياة لتستمر بوجوده، فإن ما يميز تموز أنه رغم إنتمائه إلى الآلهة التي أوجدها واختارها الإنسان الأول ليسكنها السماء، والتي تشبهه إلى حد بعيد، إذ تحب وتكره وتتزوج وتنتقم، إلا إنها تختلف عنه بكونها خالدة، ولعل أقدم النصوص التي تحدثت عن أسطورة تموز هي النصوص السومرية التي روت قصة الإله تموز وأسمته ديموزي المُقترن بعشقهُ الذي ينبعث من أجله من تحت الارض السفلية، وأن هذا العشق مُتمثل بالإلهة التي أُطلق عليها إنانا (عشتار) نفسها، وكما ذكر في النصوص والنقوش القديمة كان أسم تموز مرتبطا باسم الإله أبسو البابلي، وهو كبير الآلهة وإله المياه، وكان يشار إليه بـ تموز أبسو، والذي يعني ابن الإله، ويُشار إلى أن ديموزي في التسمية السومرية يعني ابن إله المياه العظيم، فتموز أخذ أسماء مختلفة في حضارات مُختلفة فهو ديموزي السومري، وتموز البابلي، وأدونيس الإغريقي، كما هو أيضا أدونيس في حضارة أوغاريت، وأدون عند الفينيقيين، وهناك اعتقاد أخر سائد لدى بعض الباحثين وهو أن تموز كان من سلالة ملوك سومر قبل مايسمى بعصر الطوفان، ويفسر السبب وراء هذا الاعتقاد: هو أن عصر الملك تموز كان عهد خصب وأزدهار ورخاء، فتم تخليده بإحدى أهم أساطير العالم القديم وهي أسطورة “الخصب المقدس” اي أسطورة العشق والموت والحياة والانبعاث من بعد الموت من الركام من تحت الأرض من العالم السفلي الى الحياة الابدية والتي خلدناه نحن بهذه الجزئية في عصرنا الحديث من خلال الثورات، والتي تصادف أغلبها بشهره الذي سميناهُ بإسمه “تموز” البابلي مبعث الحياة ومنبع الثورات. أن الاسطورة وفقاً للباحث فراس السواح “مغامرة العقل الأولى”، حيث جهد الإنسان دوماً في كشف حقيقة العالم والحياة والبدايات، وشغلته الغايات والنهايات، فالأسطورة بحسب السواح، “هي التفكير في القوى البدئية الفاعلة الغائبة وراء هذا المظهر المبتدي للعالم وكيفية عملها وتأثيرها، وترابطها مع عالمنا وحياتنا، وهو أسلوب في المعرفة والكشف والتوصل إلى الحقائق، ووضع نظام معقول ومفهوم للوجود، يقنع به الإنسان ويجد مكانه الحقيقي ضمنه، ودوره الفعال فيه”، في حين نظر إليها باحثون آخرون كجهازٍ رمزي أو سردي، يقوم بإرسال رسالة رمزية مشحونة بكثير من الدلالات، فقد تكون الأسطورة قصة أو حكاية رمزية تلخص عدداً من المواقف المتشابهة، وتترجم قواعد السلوك عند هذه الجماعة الاجتماعية أو تلك، وتنتمي إلى العنصر المقدس لديها، فهي تتمكن منا رغماً عنا؛ وغالباً ما تروي تاريخاً مقدساً، وتسرد حدثاً وقع في عصر ما، في زمان غير محدد، وتحكي بواسطة أعمال كائنات خارقة وفوق طبيعية لتبرزها إلى الوجود الحقيقي. ان للاسطورة وظائف مُرتبطة بالإنسان وسيكولوجيته فقد فصل فيها القول مالينوفسكي Malinowski ودوركهايم Durkheim ويونغ Jung، وغيرهم، فإنها قد قَصَرَت التأويل على المنظور الوظيفي المفترض، حيث تقوم الدراسات المرتكزة على وظيفة مفترضة للأسطورة بتفسير مضمون نص من النصوص على ضوء هذه الوظيفة، ويتم نشدان أعمق مستوى للتحليل في التحليلات البنيوية للأسطورة، حيث انها تكون بهذه النقطة مُرتبطة بجزئية مُعينة فيها، ويقيناً فإن الدراسة الأشهر، ولكنها ليست الشكل الوحيد للدراسة البنيوية، هي الدراسة التي فصل الكلام فيها كلود ليفي-ستروس Claude Levi Strauss مقاربته التحليلية في عدة دراسات للأسطورة وبموضوعات عديدة، وأخلص بجميعها إلى أن ماهية الأسطورة هي في القصة التي تسردها، وليست في تحديد أغراضها وموضوعاتها، وينكشف معنى القصة بتبين العلاقات المتبادلة بين عناصر القصة، أي بتحليل بنية القصة، ويستند هذا التحليل إلى رأيه القائل بأن الفكر الأسطوري يتقدم دائماً من إدراك التعارضات الأساسية إلى حلها والدراسة البنيوية للأسطورة هي عند ليفي–ستروس منصبة على اكتشاف القيم المُشتركة بين عناصر القصة – العناصر التي تصطف في أنموذج يعكس التعارض الأساسي المثنى الذي تقوم الأسطورة بالتوسط فيه. أن للمزيد من البحث في الشكل الآخر للتحليل البنيوي الموجه (كالافتقار، وقتيل الافتقار والحظر، والانتهاك) فيستطيع المرء أن يصف وينمط البنى بالطقس أو البواعث النفسية الكامنة، وتنتمي للعالم الواقعي وتهدف لتحقيق نهاية عملية، فهي تُروى لترسيخ عادات قبلية معينة أو لتدعيم سيطرة عشيرة أو أسرة ما أو نظام اجتماعي ما، لذلك هي في هذه الحالة عملية في نشأتها وغايتها، في حين ربط فرويد الأسطورة بالحلم حيث رأى تشابهاً في آلية العمل بينهما، وتشابه الرموز لكليهما، فهما نتاج العمليات النفسية اللاشعورية، ففي الأسطورة والحلم تقع الأحداث مرة خارج قيود وحدود الزمان والمكان، وبالتالي فإنه على ضوء هذا التعدد والتنوع في منطلقات واتجاهات البحث الخاص بالأساطير يمكن الإشارة إلى أنواع عديدة للأسطورة منها: أساطير الظواهر الطبيعية وأساطير الحيوانات، وأساطير النباتات، والأساطير الدينية، وأساطير الأصل والحياة، وأساطير الجنس، وأساطير الصحة، وأساطير الطقوس والعادات، وغيرها الكثير. ويتفق الباحثون أيضاً على وجود تقسيم آخر لأنماط وأنواع الأساطير تختلف فيما بينها في الهدف والسبب؛ ومن أهمها أسطورة الأصل التي تعتبر الأسطورة السببية التكوينية، وتنحصر وظيفتها في إعطاء تفسير خيالي لأصل مادة ما أو اسم ما أو عادة مُحددة، وهناك أيضاً أسطورة الطقس التي يُعتقد بأنها الأقدم بين الأساطير، وتتولى الأسطورة هنا سرد قصة أو تصف المواقف وتجسّدها، أمَّا “أسطورة الصيت” فتقوم على تقديم هالة من الغموض والإعجاز حول بطل شعبي، وأسطورة العبادة التي تجري في معابد محلية متعددة وتقدم القرابين هنا بواسطة الكهنة، أمَّا أسطورة البعث فهي التي تقول ببعث الإنسان بعد موته مضيفة للبعث هالة من الغرائب والحوادث والمتخيلات يحتاجها الإنسان على الدوام لتُجسد فكرة المُنقذ الذي يحتاج آلية الإنسان نفسية ليجعله مُدرك لا بد من ظهوره لأنتشاله من واقعه والتي على الدوام يكون غير مُرضي للإنسان ذاته فهو تواق دائماً للرفعة والعلو والسمو، أن موقع هذه الأسطورة في التسلسل الزمني الأفتراضي تقوم بكشف المبادئ التي تحكم تشكل الفكر وتسري على كل العقول البشرية حيثما وجدت، أما في العمق وخلف المعنى الظاهر لهذه الأسطورة فهناك معنى أخر وهي الرسالة المكنونة المُتوارية والتي يمكن فكها بما يتناسب مع الواقع الاجتماعي الأنساني المُعاش، أذ هي تعبير عن رغبات لا واعية مُختلفة بأشياء كثيرة عن التجربة الواعية، أذ تجمع تناقضات تتمثل في عدم أنفصال مفهوم الحياة عن مفهوم الموت، فإن أصل الموت يكون هنا بوابة للحياة الأبدية، ومع أن هذا التصور يناقض ما يجري في الحياة الاجتماعية من تصور واقعي يلغي الحياة بعد الموت بدورة حياتية واقعية على نفس الوجود الأرضي، إلا أن التصور الكوني للأسطورة يُجيز ذلك، وهذا يُدل على الحاجة النفسية للإنسان في أضواء تصورات على حقيقة ما لها أصل موجود لتحقيق غايات مرغوب بها من قبله تُساعدهُ على أن يستقر نفسياً بتجدد الأمل الذي يحتاجه للاستمرار على هذه الأرض والمُطاولة على العيش فيها وتحمل صعابها.

كاتب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى