صحافة وآراء

الموجهات الثقافية للتعليم “رؤية أنثروبولوجية”

بقلم د.مها أسعد

يتعامل أعضاء المجتمع فيما بينهم بواسطة الثقافة، فضلاً عن تعاملهم مع العالم وهي تنتقل من جيل إلى جيل بالتعلم، ويشمل ذلك الجوانب الرئيسة للثقافة الذي يتفق عليه أغلب العلماء، أي أنماط التفكير بالمعاني المشتركة التي يوليها أعضاء المجتمع لمختلف الظواهر الطبيعية والفكرية، بما في ذلك الدين والأيديولوجيات، وأنماط السلوك، والمصنوعات، والمهارات المنقولة ثقافياً، والتقنيات المستعملة لتحقيق النتائج الملموسة، على الرغم من أن هناك خصوصية للقيم تميز أي جماعة، إلا أن هناك بالمقابل ميلاً قيمياً للثقافة إلى الانتشار في كُل الثقافات، اذ يتم إشتقاقها من مسائل فلسفية اوسع من التي هي جزء من محيط الثقافة الاجتماعي، وتنقل بوساطة مجموعة مختلفة من المصادر الأسرة ووسائل الإعلام والمدرسة ودور العبادة (جماعات مرجعية)، تميل الدولة إلى أن تكون مُستمرة ودائمة ومستقرة نسبياً تدور كثقافة فرعية داخل نفسها مرة للتأكيد عن نفسها داخل أعضاء الجماعة لتعزيز رابط الانتماء، ومرة خارج نفسها لضمان أنتشارها في اوساط ثقافية لدول أخرى، كما انها دليل الإدراك والتواصل Perception and communication، ومثال ذلك تدريس مادة التاريخ في المدارس الذي يعد أمراً شائعاً، اذ تعمل كل ثقافة على تأكيد تاريخها، يتضمن ذلك مثلاً أحداث التوقيع على إعلان الاستقلال للدولة من أنتداب المحتل، او الثورات التي حدثت في المسيرة الحياتية لهذه الدولة او تلك، وكيف حققت الدولة بسواعد أبنائها انتصارات عديدة في ميدان المعركة، كما ويتم التركيز على التراث الثقافي، وهكذا هو الحال عند تدريس الدين او اللغة او الجغرافية… وعندما يتم تعليم وتدريس الطلاب بالجوانب الثقافية للتاريخ واللغة والتراث والجغرافية والآداب هو لأجل تعزيز المعتقدات والقيم والمعرفة للمجتمع المحلي، أي تقديم معرفة عن الثقافة، والمُساعدة على فهم العلاقات الشخصية في المؤسسات التعليمية والمدرسية على وجه الخصوص، وكذلك المساعدة على فهم أهمية مواضع الثقافة في التعليم.

يمكن تقديم عدد من الأمثلة للمناهج التعليمية في ثقافات متباينة والتي تعكس في مناهجها سمات تلك الثقافات، إذ يؤكد التعليم في الثقافة الصينية على سبيل المثال أهداف الجماعة والمجتمع ويعزز الانتماء ويطالب بالتعاون والتكافل، ويشدد على انتهاج الوئام اذ ينبغي ان يحمل المعلمون التقاليد الكونفوشيوسية والعمل على تلقين معانيها؛ نتيجة لذلك يحتل المعلمون الصينيون موقعا مميزا في السلطة المعنوية وإرشاد الطلاب الى قواعد التصرف الأخلاقي التي تقرها وتركز عليها الثقافة، أو ما يمكنهم من ارشاد تلامذتهم الى قواعد السلوك التي تقره تلك الثقافة وتركز عليه. أما النظام التعليمي الياباني فانهُ يسترشد بوزارة مركزية للتعليم تفرض عليه درجة عالية من التوحيد unification ومنهج مدرسي موحد، وان لهذه الوزارة مجموعة من المعايير والمناهج الوطنية لجميع المدارس العامة، بدءاً من رياض الأطفال إلى المدارس الثانوية، لضمان تعليم موحد، واستعمال المبادئ التوجيهية للوزارة التي تعمل وتعد كُل منهجاً بشكل مميزاً، مع الأخذ بعين الاعتبار مراعاة الظروف الخاصة والمحيطة، وحالة المجتمع الياباني وقيمه الثقافية المعبر عنها في المثل التقليدي الشعبي (من اليسر كسر السهم المنفرد وصعوبة الكسر بهيئة الحزمة)، حيث يركز المنهج التعليمي الياباني على التعاون والانسجام واللياقة الاجتماعية المناسبة، والاعتماد المتبادل والإصرار على أن يعمل التعليم المدرسي على تشكيل شخصيته وتربيته الأخلاقية ويعد الوئام الاجتماعي عنصراً أساسياً في ثقافتهم، أما عند حديثنا عن التعليم الخاص بالثقافة الكورية، فإننا نجد أن شخصية الفرد في العمليات التعليمية الكورية تماثل تلك التي وجدت في الصين واليابان فيُناط المعلمون بالأدوار القيادية في مجالات القيم الاجتماعية والوعي المدني والإعداد الأكاديمي، اذ ركن الآباء في تأديب أطفالهم على جنب، وكثيراً ما قال الأطفال الذين سيتم إخبار معلميهم إذا أساؤوا التصرف في المنزل؛ لذلك فإن التعليم الرسمي أو الموجه، وكذلك غير الرسمي أصبح الركيزة الأساسية التي تتكئُ عليها أنثروبولوجيا التربية وهي كُل ما يحدث للأشخاص طوال حياتهم، وهناك بعض التعريفات المستعملة من بعض العاملين في المجال التربوي والتعليمي تكون مقصورة على ما يتعلمه الطفل من خلال المنهج الدراسي الرسمي في المدارس، وقد ناقش العديد من مؤرخي التربية والتعليم في السنوات الأخيرة، بأن تعريف التربية قد يشمل أكثر من مجرد التعليم المدرسي الضروري لكن مع هذا فإنه لا يزال موقف الدفاع عنه في الانثروبولوجيا بشكل عام، والأنثروبولوجيا النفسية على وجه الخصوص، باتخاذ وجهة نظر واسعة للتربية وعمليات التعلم والتعليم، حيث تعد هذه السمة المميزة الأولى لمنهج أنثروبولوجيا التربية، أما السمة المميزة الثانية لها هي الاسلوب الذي تمارسهُ على القضايا التي يجري بحثها، اذ تتشابك الأنثروبولوجيا الثقافية بصياغتها العامة والنفسية فى مجموعة متنوعة من التقنيات تندرج تحت تسمية الملاحظة المشاركة Participant observation ضمن هذا التوجه المشترك، وقد وضعت أساليب أكثر تحديداً وساعدت في الإستجابة للقضايا التي اختارتها على وجه الخصوص، قد أكدت الأنثروبولوجيا النفسية على أهمية المراقبة المنتظمة وتسجيل البيانات واستعمال عمليات التكيف النفسي وتقنيات قياس الشخصية والاختبار الإسقاطي، والتصميم التجريبي للتعرف على الأفراد، وتحليل المنتجات الثقافية كأدلة للتعلم والإدراك او المعرفة، وان السمة المميزة للعلماء الأنثروبولوجيا النفسية في الوقت الحاضر هو اعتماد البيانات الأولية، إما عن طريق الملاحظة أو من خلال الاستنباط المنهجي، اما التوجه الأنثروبولوجي النفسى الثالث فهو التأكيد على دراسة القضايا التربوية في إطار تعدد الثقافات، وعد ذلك جزءً من الالتزام الأنثروبولوجي لدراسة ما يدعى بمتابعة او تعقب chase ، اي كل شخص على قيد الحياة يجعل من الأرض مسكنا له يجب ان يتابع ما يحدث حوله، أما المختص في الأنثروبولوجيا النفسية فبالعادة يكون أكثر تركيزاً على الجوانب الخاصة بالسلوك البشري، واستعماله في مثل هذه الدراسات هي لاختبار التساؤلات بالوسائل التي يمكن أن تكون عناصر ثقافية مُتكاملة مع العمليات النفسية الأساسية.

أكد علماء الأنثروبولوجيا النفسية على أهمية كل من مفهوم التصور والإدراك الحسي ومفهوم المعرفة والدراية عند التوجه نحو الموضوعات المعنية بالتربية والتعليم، وهناك أسباب لذلك نوجزها بالآتي أولاً: دراسة عملية التربية نفسها بما فيها التعليم، ويجب أن يكون الاهتمام موجهاً الى ما يتعلمه الأفراد طوال حياتهم، والياتهم بالإدراك الحسي؛ أي ماذا يمكن أن يكون مُدركاً؟ هو ذاتهُ الذي يُعد شرط أساس للتربية والتعليم. ثانيا: ما الذي يفعله ويعمل به الافراد بعد ذلك؟ هو استعمال لفظة معرفة للإشارة إلى بناء عمليات التفكير، أخذين التصور والمعرفة معا، لوصف كيفية تجربة الناس لعالمهم الذي يحيط بهم والتفكير فيه. يعد نمط التصورات بهذا الموضع العملية التي يُدرك بها الناس المحفزات عبر الحواس وما يترتب بها من تفسير، وعلى هذا النحو يُعد التصور جانباً أساسياً من جوانب السلوك الإنساني، ويخضع الى العديد من التأثيرات النفسية وأثرها على تنمية الإنسان إذا أخذنا بعين الأعتبار هذا المجال، واذا ما وضعنا أنفسنا في وجهة نظره عند اكتسابه للثقافة، لوجدنا ان مُحددات وأمكانات الشخصية التي يجب ان تكون للحظة واحدة مقدرة منذ البداية نحو تفسير وتقييم وتعديل كل نمط للثقافة، فانه بالنمط الفرعي او تجمع الأنماط التي ستكون لها تأثيراً أكثر من أي وقت مضى اذ ان كل شيء يتغير، فإذا أردنا أن نفهم انتقال الثقافة، او هي في الواقع مسألة الثقافة برمتها من وجهة النظر التطويرية او الإنمائية، وتحديداً في السنوات الثلاثة الأولى من عمر الطفل فإن نظامهُ سيكون متناغماً ومحدداً، لأن تنظيم أستجابة الطفل في هذه السنوات ستكون صالحة وواضحة للنظرية النفسية، وان ذلك يعتمد الى حد كبير على التفاعلات بين الطفل وبيئته الأولى حتى سن الثالثة في نظام معين، وفهم أنماط السلوك عاطفياً عن طريق شبكة من العلاقات، فان دراستهُ بدقة وبعناية من الولادة حتى سن العاشرة، هي ضمن هدف الإطلاع على الضبط التي تظهر فيه أنماط الثقافة، وتظهر أجزاء من هذه الأنماط في عالمه النفسي، كما وإن أهمية دراسة ما يرتبط بهذه الأنماط هو لتطوير الشخصية وفي نهاية المدة المقترحة، عندما نرى كماً من اجمالي الثقافة المرخص بها من قبل الجماعة الاجتماعية التي ينشأ بها الطفل والتي يكون لها وجود كبير بالنسبة له والمتمثلة في رموز المجتمع الثقافية وعاداته وتقاليده وأعرافه والتي جميعها تؤثر في ردود أفعاله وسلوكياته وتفاعلاته، فكل ذلك يكون منعكاساً منه مُستقيه من مجتمعه التي نشأ به، والثقافة التي تربى عليها سواء أكانت تلك الثقافه فرعية له ولعائلته او ثقافة المجتمع الأكبر العامة والمشتركة، ونسميه معرفياً ثقافة ممنهجة خاضعة للمؤسسة التربوية( رياض الاطفال، المدرسة..) ومؤثرة به، واخرى ثقافة غير ممنهجة خاضعة لما يتأثر به من( البيت، جماعة اللعب..)، وهذا ما جاء به فهمنا الاثنوغرافي في سياق منهج تجريبي.

كاتب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى