على الرغم من سعة عدد الكتابات وكثرتها التي تناولت أطروحات شريعتي وآرائه، إلا انه لم يكن اهتماما كبيرا بأطروحاته الصوفية والعرفانية التي عكست تجاربه الروحية الخاصة والشخصية.. علماً أن كتابات شريعتي هي ثلاثة أنواع حسبما ذكر في مقدمة كتابه “الصحراء” وهي: الاجتماعيات، الإسلاميات، الصحراويات..
وهذه الصحراويات هي عبارة عن مخاضاته الروحية والنفسية في آن واحد، وهي التي رشح عنها ذلك الوجه الصوفي والعرفاني لشريعتي، وهي تجارب مر بها بالطفولة ثم عادت بنحو آخر في شبابه ولاسيما عام 1964.
فقد كان يسعى في كتاباته “الصحراويات” التي ترجم قسم كبير منها تحت عنوان “الصحراء” والذي قام بترجمته الأستاذ حسن الصراف، كان يسعى للبحث عن كينونته الضائعة وشعوره بالغربة التي تزامنت عودته إلى مشهد بعد إكمال دراسته عام 1964 وكيف شعر بإحباط وقرف شديدان لعدم قدرته على التواصل مع معارفه وأصدقائه القدامى، والذين أدرك أنهم قد أصابهم التحول ووصفهم بأنهم قرف وانتهازيون متزلفون ويمكن اختصار هدفهم في الأول في الحياة في رباعية على حد وصفه (المعدة، وما تحتها، والملبس، ومؤخراتهم).
نفور شريعتي من بيئته الاجتماعية جعلته يجد في التصوف الملاذ الآمن من كل ترهات وسخافات العالم الذي حوله،بل أنه ألمح في عام 1969 إلى أن انخراطه في التصوف تصادف مع انهيار آماله السياسية فكتب يقول: الإسلام والزهد والإيمان والتصوف والحكمة والمعرفة الداخلية نهضت فيه على أنقاض انهزام البطولية وانتهاء معارك الشجاعة. وهكذا بدأ ألم (العرفان السياسي) كما يسميه يفعل فعله فيه، فقد شغله سبب الوجود ومعنى الموت في فترات عزلته الطويلة.
وكانت أولى معاركه هو البحث عن الإيمان الحقيقي الذي لا يقف خلف الطقوسيات التي يؤكد عليها الدين التقليدي/الفقهي، اذ وجد أن الإشراق أعلى من العقل، والقلب أشرف من الدماغ، ووصف نفسه آنذاك بأنه عابد للحقيقية.
هو وجد أن الناس قد تاهوا في صحراء الوجود ولكن على الرغم من حالة التيه هذه، إلا أن هنالك ثلاثة علامات ممكن أن تجعل الإنسان يجد (أناه الإلهية) بحسب وصفه، وهذه العلامات المتداخلة مع بعض هي (الدين، العرفان، الفن) فمن خلالها لوحدها يدرك الإنسان مغزى الحياة وهدفها وجماليتها في آن واحد.
لقد تماهى وارتبط كليا آنذاك مع عزلته الروحية، ولكن كان في الوقت نفسه حائرا بين الالتزام الاجتماعي والأخلاقي عبر الانخراط في العمل السياسي، وبين إرضاء توجهاته العرفانية. ولكنه حسم الأمر أخيرا وقرر جمع الاثنين معا عبر مركزيته المنهجية الفكرية الرئيسية (الأدلجة). ولهذا سعى لتحويل تجاربه الصوفية والعرفانية مع ميراث التصوف والعرفان إلى أداة لإحداث تغيير اجتماعي وسياسي.
لكن وللمفارقة العجيبة لم تكن رؤيته حول التصوف والعرفان ثابتة، اذ هو في مرحلة فكرية من حياته هاجم التصوف والعرفان بعد ذلك ناظرا لهما بوصفهما ظاهرة اجتماعية تعد أفيون يؤدي إلى الجمود، وهذا ما قاله بعد خروجه من السجن، ولكن بعد فترة من الزمن أعاد تقديم التصوف والعرفان في عمل فكري آخر بعد أن نضجت تجربته الشخصية الروحية والفكرية ليرجع ممجدا ومحتفيا بالعرفان. وهذا تم في كتابه (ثالوث العرفان والمساواة والحرية)، اذ في سنواته الأخيرة ضم العرفان كأحد أعمدة الأيديولوجيا الإسلامية الأساسية.
هو يقول في كتابه انف الذكر أننا امام ثلاثة تيارات فكرية لا رابع لها:
-تيار العرفان: وهو تيار معنوي يتناول علاقة الانسان بالوجود ويقدم رؤية شاملة لمعنى العالم.
-تيار الاشتراكية: وهو يدعو لإلغاء الصراع الطبقي والإعلاء من المساوات بين البشر جميعا.
-تيار الوجودية: وهو يدعو إلى الاهتمام بالإنسان نفسه وإرادته وحريته الذاتية.
ثم يعود لينتقد كل تيار، فالعرفان عنده تسليم غيبي يجعل الإنسان فاقدا لارادته، والاشتراكية موغلة بالنزعة المادية، اما الوجودية فهي ملحدة. ولكن على الرغم من ذلك إلا ان العرفان يقدم العشق كمركب رئيس للعالم والاشتراكية تقدم منظور العدالة الاجتماعية، والوجودية تقدم أصالة وجود الإنسان وقيمته المحورية.
فلهذا هو يجد أن الاكتفاء بتيار واحد يجعل البشرية في حالة خسران مبين، وأن الأكمل هو اعتماد مدرسة واحدة تجمع محاسن التيارات الثلاث وتجمع العناصر الثلاثة الجوهرية وهي: أصالة المساواة وأصالة العرفان وأصالة الوجود..
فالتطور الناجح للفرد الإسلامي المثالي وفقا لشريعتي: يستلزم أيديولوجيا تحرر الله وحب الله من احتكار الدين التقليدي (الفقهاء ) وتحرر الحرية من احتكار الرأسمالية، وتحرر المساواتية من احتكار الماركسية أو الشيوعية.