“الكيان” وإفريقيا والبحث الخيالي عن الجذور؟!
“التراث اليهودي لم يعترف باليهود الإثيوبيون الذين يسمون بـ”الفلاشا”، وتعنى المنفيون، إلا بعد تأسيس دولة إسرائيل بعد عام 1948، إذ اضطرت الدولة إلى الاعتراف بهم بغرض جلب آلاف منهم نحو إسرائيل لتقوية ديمغرافيتها ولاستخدامهم في الأعمال البسيطة، وتمت عدة عمليات لنقل يهود “الفلاشا” إلى إسرائيل بصورة جماعية. ثمة اعتقاداً ظل سائداً داخل قطاع واسع من الإسرائيليين بأن غالب المُرحّلين ليسوا يهوداً بالأساس، بل أشخاص راغبون في الهجرة من واقع الجوع والفقر نحو دولة توفر لهم سبل العيش، لذلك ظلوا يعانون العنصرية والاضطهاد داخل الوطن الجديد. لا توجد أدلة علمية وتاريخية تؤكد بصورة قاطعة صحة الروايات. واقع الحرب التي تخوضها تل أبيب الآن في غزة ولبنان بحاجة كبيرة إلى تقوية الجبهة الداخلية، بخاصة أن معظم “الفلاشا” يخدمون داخل الجيش الإسرائيلي، بالتالي فإن الحديث عن الأصول اليهودية القديمة في إثيوبيا، وتثبيت يهودية “الفلاشا” أمام حملات التشكيك والاضطهاد السائدة في المجتمع، قد يقوي اللحمة الداخلية”.
وحده “اللقيط” ما أن يبلغ سن الرشد والإدراك مَن يقضي بقية سنوات عمره، طال أو قَصُر، في رحلة البحث المُضني عن أصله وفصله لعلّه يظفر بإجابات مقنعة إلى حدّ ما على طوفان الأسئلة التي تجتاحه وتُسيطر عليه وتتحّكم بحياته ومستقبله وقبوله في المجتمع كفرد طبيعي من أفراده.. وهذا هو حال الجماعات اليهودية المبعثرة والتي تناثرت في شتّى بقاع الأرض، وهي تجهد لاهثة خلف سراب “العرق” و”الشعب” و”اسرائيل” و”اليهود” و”اليهودية” و “أرض الميعاد” و”الشعب المختار” و”رب الجنود يهوه” الذي حلّ في شعبه وأرضه وجيشه ومنحه “القدسية” وبرر بل وبارك له كافة أفعاله تجاه بقية شعوب الأرض “الأغيار” المُسخّرين لخدمة شعبه والمخلوقين على هيئة بشر رأفة بشعبه وهم بالأصل حيوانات بشرية ليس إلّا. مستندين في ذلك إلى خرافات وأساطير اكتتبها أحبارهم طيلة قرون مضت في غابر الأزمان، وجعلوا من هذه القراطيس المبعثرة بعد جمعها كتباً مقدّسة بمسمّيات مختلفة “توراة” البابلية والسامرية و”التلمود”… ثم تمكّنوا في غفلة من الزمن بتسميتها العهد القديم وإقحامها بالكتاب المقدّس إلى جانب العهد الجديد بأناجيله الأربعة المُجمع عليها، وبالتالي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من معتقدات العالم المسيحي، وهو ما يفسّر إنحيازه الأعمى لما صنعه الغرب الاستعماري من “كيان” لقيط في فلسطين المحتلة.
ومن البداهة التذكير أن الأصيل لا يخطر على باله البحث عن الجذور، فأصله الثابت وفروعه في السماء وفوق الأرض تدل على أصله وأصالته.. وفي هذه العجالة سنتناول بحث “الكيان” المُركّب من جماعات لا انتماء ولا هوية لها عن جذور ليس في فلسطين، وإنما في القارة السمراء إفريقيا، وهم الذين يتباهون بالانتساب إلى الجنس الأبيض النقيّ وعالمه “المتحضّر؟!
البحث عن “وطن” في إفريقيا
تزايد الحديث مؤخراً عن تخطيط “الكيان” المجرم لإرسال الفلسطينيين الباقين على قيد الحياة إلى دول أفريقية. وخصوصاً تلك الدول التي جرى اقتراحها قبل فلسطين كوطن لليهود، لكنها قوبلت بالرفض من قادة الحركة الصهيونية ولم تتوافق مع مخططات الاستعمار الغربي لفلسطين والشرق الأوسط حينها، مثل الكونغو ورواندا وتشاد.. والتي اتجهت إليها أوروبا لتوطين جماعاتها اليهودية التي استنفذت وظائفها التاريخية، وباتت عبئاً عليها قبل مئة عام، أصبحت الآن هدفاً لتل أبيب لإرسال الفلسطينيين المزعجين إليها، والتخلص منهم في دولة “الأبارتهايد” اليهودية القومية.
وجدير بالذكر أنه منذ فترة طويلة بدأت الدول الأوروبية تبحث عن مكان لتوطين اليهود البالغ عددهم أربعة ملايين نسمة في أوروبا، وبدأ تاريخ هذا البحث عام 1885، عندما اقترح الأكاديمي الفرنسي بول دي لاغارد، المشهور بمعاداته للسامية، مدغشقر للتخلص من اليهود في القارة العجوز، لكن اتخاذ خطوات جدية ووضع خطط شاملة لهذا الموضوع يستغرق وقتاً. وفي عام 1903 اقترح الوزير البريطاني جوزيف تشامبرلين “هضبة ماو”، التي كانت تقع داخل حدود أوغندا آنذاك وكينيا اليوم، لتوطين اليهود، ورحب العديد من المندوبين اليهود بهذا الاقتراح وتم قبوله في المؤتمر الصهيوني السادس، وعلى رغم ذلك ونتيجة للخلافات بين الصهاينة المتدينين والعلمانيين، تم رفض اقتراح أوغندا في المؤتمر الصهيوني السابع عام 1905. وبحلول عام 1910 تم العثور على مستوطنة أخرى لليهود في القارة الأفريقية، وهي أنغولا، مستعمرة البرتغال. ولعل أحد أسباب اختيار أنغولا هو أن الإدارة البرتغالية لم تكن لديها ميول معادية للسامية، بل على العكس من ذلك، تعاملت مع اليهود “كإخوة لهم”. كان الهدف الثاني هو جذب المستثمرين اليهود إلى البرتغال، وبالفعل في عام 1912 جرى إعداد مشروع قانون للاستيطان اليهودي في أنغولا، والموافقة على مشروع القانون بالإجماع إلى البرلمان البرتغالي وإرساله إلى مجلس الشيوخ للموافقة عليه. وآنذاك نص مشروع القانون أنه عند استيفاء الشروط، يخضع المستوطنون اليهود للإدارة البرتغالية، ويحصلون على الجنسية البرتغالية، ويستفيدون من بعض الحقوق التي تقدمها الحكومة، لكن مشروع القانون هذا نوقش على نطاق واسع خلال مؤتمر “منظمة الأرض اليهودية” التي أسسها الناشط اليهودي البريطاني إسرائيل زانغويل، ولم توافق المنظمة عليه. وفي الـ9 من ديسمبر (كانون الأول) 1938، أخبر وزير الخارجية الفرنسي جورج بونيه نظيره الألماني يواكيم فون ريبنتروب أن هناك حاجة إلى “حل نهائي” لتخليص فرنسا من 10 ألف لاجئ يهودي وكان الاتجاه الجديد في بحث الأوروبيين عن الحل النهائي هو مدغشقر، الواقعة في شرق أفريقيا. وبحلول عام 1940، كتب فرانز راديماخر، وهو ضابط في وزارة الخارجية الألمانية، رسالة إلى الحكومة النازية يشرح فيها فكرة إرسال ملايين اليهود الذين يعيشون في أوروبا إلى جزيرة مدغشقر. وقد وُضعت “خطة مدغشقر”، التي حظيت بموافقة هتلر، على الرف رسمياً في عام 1942 مع الاحتلال البريطاني للبلد الأفريقي واستبدالها بكلمة “الإخلاء إلى الشرق” في بيانات السياسة العامة. وشهد مارس (آذار) 1944 انعقاد مجلس “هرار” لإنشاء مستوطنة يهودية تتمتع بالحكم الذاتي في المقاطعة الإثيوبية، لكن هذا الاقتراح الذي قدمه هيرمان فوربيرغ جرى تأجيله بسبب الحرب، قبل أن يدين المؤتمر اليهودي العالمي الخطة ويصفها بأنها “مصيدة فئران”.
في المراسلات بين الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى مع الحكومة الإثيوبية، ذكر أن عدد سكان إثيوبيا صغير، وأن ظروفها المناخية مشابهة لأوروبا، واعتبرت هرار مناسبة للاستيطان اليهودي على أساس أنها من نسل داود. وتقول تلك المراسلات، “إن مشروعنا ليس منافساً لفلسطين بأي حال من الأحوال، في الواقع نحن نشعر بقوة الدعوة الروحية لفلسطين ونقدر تماماً مزايا دولة راسخة على الريادة اللازمة لبناء مقاطعة جديدة، ولكن الحقيقة الأساسية هي أنه في ظل الظروف الحالية لفلسطين ليس من الممكن استيعاب كل اليهود الذين يحتاجون إلى المساعدة”. وعلى رغم كل الجهود التي بذلتها أميركا وإنجلترا، رد الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي على العرض بشكل سلبي، متعللاً بأسباب اقتصادية، جاء ذلك في رسالة كتبها إلى سفير إثيوبيا في أميركا بلاتا إفريم تويلدي مدهين. كما أن أنغولا كانت إحدى المواقع المقترحة لإقامة دولة لليهود فيها.
لكن مؤسس الصهيونية ثيودور هرتزل ناشد الإمبراطورية العثمانية لأول مرة في عام 1901 لجمع كل اليهود في وطن واحد وطلب الأراضي الفلسطينية، وبعد أن رفضه العثمانيون طلب هرتزل أراضي قبرص أو سيناء (مصر) من إنجلترا، لكن لندن لم تقبل بكلا العرضين وأعدت خطة مختلفة تماماً.
ماذا لو قامت “إسرائيل” في أفريقيا؟
لو أن “إسرائيل” قامت في الأراضي الأفريقية وليس في الأراضي الفلسطينية، لما تأخرت القوى الغربية في استغلال وذبح الشعوب الأفريقية، وكانوا سيرتكبون جرائم إبادة جماعية أكبر بكثير مما ارتكبوه فعلياً. ورغم ذلك تواصل “إسرائيل” اليوم في واقع الأمر، مع القوى العالمية الأخرى، سياساتها الإمبريالية تجاه أفريقيا بأقصى سرعة، من خلال المشاريع الزراعية و”الصهيونية المسيحية”. وقد أدركت العديد من دول القارة السمراء بخاصة جنوب أفريقيا، أن الصهيونية تشكل تهديداً للعالم أجمع، وذلك “بسبب الانتهاكات التي ارتكبتها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية وسياستها التمييزية والقمعية المستمرة منذ 76 عاماً”. ويبدو أن هذه القناعة قد انسحبت مؤخراً على الدول الأفريقية عموماً، وخاصة تلك التي تنسى الحقائق التاريخية وتتعاون مع الفكر الصهيوني من أجل مصالح قصيرة المدى. لكن “الكيان” العدواني التوسعي لم يستسلم بعد، وما يزال الصراع على اشدّه .
إسرائيليون ينقبون في إثيوبيا عن مملكة يهودية مزعومة
درجت بعض الأوساط السياسية والثقافية في إثيوبيا منذ زمن بعيد، على ترديد سرديات أسطورية تتحدث عن وجود مملكة عاش فيها اليهود برخاء واستقرار، على سفوح تلال شديدة الانحدار في قلب جبال سيمين شمال إثيوبيا، بالقرب من إقليم جوندر الحالي. حيث توجه فريق إسرائيلي مختص في الآثار يترأسه عالم الآثار الإسرائيلي بار كريبوس برفقة بعثة استكشافية تابعة لمركز التراث اليهودي في القدس إلى إثيوبيا، بهدف التنقيب عن “بقايا مملكة يهودية في أفريقيا“، بحسب ما أفادت به صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، والتي ذكرت إن المملكة المزعومة ازدهرت في إثيوبيا لمدة تزيد على 1000 عام، ويسعى الفريق الإسرائيلي إلى أن يكون أول من يكتشف آثار تلك المملكة المزعومة، وعلى رغم انعدام أي أدلة تاريخية موثقة عن السردية المتخيلة التي تتردد في بعض الأوساط البحثية والثقافية في إثيوبيا، فإن التحرك الإسرائيلي الأخير يطرح أكثر من سؤال عن جدوى مثل هذه المحاولات، وما إذا كانت أغراضها بالفعل بحثية تهدف إلى إثبات حقائق تاريخية أو نفيها، أم أنها تسعى إلى تكريس سرديات متخلية بهدف خلق واقع سياسي جديد؟ في حين يتساءل عدد من الباحثين الجادين عن مدى جدية المهمة التي ينوي الفريق الإسرائيلي القيام بها، بخاصة أن المعلومات المنشورة حول تلك المملكة لا تتعدى الروايات الأسطورية، وهل يمكن صياغة واقع سياسي راهن اعتماداً على سرديات يعتمد جلها على الأساطير التاريخية المتخيلة؟
الإجابة عن هذا السؤال بصورته المبسطة تميل إلى النفي باعتبار أن تطور المجتمعات البشرية ودخولها في مسارات حداثية في ظل التطور الصناعي والثورة التكنولوجية تجعل الأساطير بالتبعية مجرد تراث تاريخي لا غير قد يتم استحضارها في الأعمال الأدبية والفنية، لكن لا يمكن الركون إليها لتقديم رؤية للمستقبل أو صياغة واقع سياسي راهن. لكن ثمة رؤية أخرى ربما أكثر عمقاً قد تكشف عن الحبل السري الرابط بين الواقع السياسي القائم أو المراد خلقه وبين السرديات التاريخية المتخيلة. فالمفكر الفرنسي الشهير روجيه غارودي مثلاً يشير في كثير من كتاباته إلى مركزية الأساطير في التفكير التاريخي اليهودي، مؤكداً أن إسرائيل كدولة لم تستطع أن تعلن حضورها الفعلي على الأرض إلا بفضل عملية إحياء وتحيين هائل للأساطير اليهودية القديمة، وابتكار أساطير جديدة من واقعها السياسي القريب (أرض الميعاد، شعب الله المختار، إلخ)، بالتالي لا يمكن التغافل عن دور الأساطير التاريخية في محاولة صياغة الراهن والمستقبل السياسي.
مملكة يهودية بلا أدلة
في السياق ذاته، أشارت “هآرتس” إلى أن ثمة اعتقاد سائد في بعض أركان المجتمع اليهودي بأن ثمة مملكة لليهود شهدت حياة مستقلة في غرب إثيوبيا الحالية المتاخمة لإقليم جوندر، إذ أقام فيها غالب اليهود الأفارقة قبل هجرتهم إلى إسرائيل.حيث امتدت أطراف المملكة – بحسب السردية ذاتها – على مساحة تبلغ مساحة دولة إسرائيل اليوم، ووفقاً للصحيفة فإن كثيراً من الروايات والأساطير سادت في المجتمعات اليهودية وأثارت أملاً بالخلاص، من دون وجود أو العثور على أي دليل مادي يدعم هذه الرواية. وتقول السردية إن المملكة كانت قائمة لأكثر من ألف عام تحت حكم سلالة من الملوك يدعى كل ملك منهم “جدعون” نسبة إلى القاضي التوراتي، لذلك أطلق عليها اسم “مملكة الجدعونيين”. ويربط المنظرون لهذه الرواية بين تلك الأساطير ووجود يهود يعيشون على قمم الجبال بالقرب من جوندر في إثيوبيا كان يطلق عليهم “لوبيا”، وهو المسمى الذي يعتقد بعض الرحالة الإسرائيليين أنه يشير إلى النوبة “السودان حالياً”. وتشكك الصحيفة بمدى صدقية هذه الروايات بعكس الحقيقة التاريخية، إذ ترجع المعلومات عن المملكة إلى روايات شفوية تم تناقلها عبر الأجيال على مدى العقود الأربعة الماضية، وتعدى بعضها إلى التوثيق والكتابة ككتاب “الجدعونيون تاريخ يهود إثيوبيا والرحلة إلى أرض إسرائيل”، للكاتب الإسرائيلي الإثيوبي دانييل بيليتي. وتتناقض هذه السردية مع الروايات المركزية اليهودية، إذ إن الشهادات الأولى بحسب الصحيفة ترجع إلى القرن الـ14 الميلادي، بينما يوجد إجماع على أنها سقطت عام 1626.
ويشير المؤرخ الأميركي هربرت كراوس إلى أن الكتابات التاريخية التي خطها ناشطون من المبشرين اليسوعيين تذكر وجود كنيس يهودي في سيجينيت يعود تاريخه لما قبل القرن الـ19، مما قد يكشف عن معلومات ثمينة حول الحياة الدينية والروحية لليهود المحليين في إثيوبيا. في حين يعمل المؤرخ الإسرائيلي بار كريبوس منذ عام 2015 على تقديم أبحاث بهدف تحديد الأماكن التي تربط التقاليد المختلفة بالمملكة اليهودية المزعومة في الحبشة، وبانتقاله إلى إثيوبيا يسعى إلى اكتشاف نتائج مادية ملموسة لإثبات صحة القصص حول المملكة أو دحضها. ووفقاً لما نقلته “هآرتس” عن مؤرخين فإن اليهود قبل نحو 500 عام كانوا خاضوا حروباً طويلة دفاعاً عن مملكتهم المستقلة في أفريقيا، مما ينافي الرواية التقليدية للنفي اليهودي القائل إن “حياة اليهود كانت دائماً في الشتات تحت حكم أجنبي، مسيحياً كان أم مسلماً”. في حين يرجح الباحث عمر سلهم في دراسة عن أصل “يهود الحبشة – الفلاشا”، أن “ساحل شرق أفريقيا منطقة تجارية جذابة لكل قاصد ربح، ومن ثم فإن الوجود اليهودي في هذه المنطقة يعود لممارسة النشاط التجاري، نافياً أن يكون ثمة وجود تاريخي قديم لهم بصورة ممالك في هذه المنطقة. وتذهب بعض المصادر الإثيوبية إلى أن تاريخ اليهود في إثيوبيا يعود ليهود مصر الذين خرجوا مع نبي الله موسى هرباً من فرعون، وخلال فترة التيه قصدوا أرض الحبشة.
روايات متناقضة
بالعودة لتأصيل الوجود اليهودي في إثيوبيا فإن ثمة روايات متناقضة اختلف حولها المؤرخون، إذ تسرد الرواية الأولى أن أصل يهود الحبشة يرجع إلى اليهود الذين استوطنوا مصر وهاجروا إلى الحبشة وعاشوا بها، فيما تذهب الرواية الثانية إلى أن أصولهم تعود لمملكة نبي الله سليمان التي شهدت انتشاراً واسعاً في المنطقة، لذلك ظل ملوك الحبشة يصفون أنفسهم بالسليمانيين، فيما تقول السردية الإثيوبية الثالثة إنهم ينتمون إلى مملكة سبأ اليمنية، وهي الرواية التي تزعم أن نبي الله سليمان تزوج من ملكة سبأ (بلقيس بحسب المسمى العربي، وماكيدا وفق التسمية الحبشية) ونتجت منها السلالة اليهودية في الحبشة. ويرى المؤرخون أنه باستثناء السرديات ذات الطابع الأسطوري حول تاريخ وجود اليهود في إثيوبيا، فإن جميع تلك الروايات تفتقد إلى معطيات علمية ترجح أياً منها في شأن أصلهم، كما لا توجد تفاصيل كافية عن معتقداتهم الدينية، عدا كونهم يؤمنون بإله بني إسرائيل، وأن الله اختارهم من دون بقية البشر ليكونوا شعب الله المختار، كما يؤمنون بالبعث والنشور وبالحساب في الآخرة، فيما لا يؤمنون بما جاء في التلمود، مما يجعلهم في تناقض مع الروايات السائدة في التراث اليهودي (الإسرائيلي بوجه الخصوص).
من جهته يرى المؤرخ الإثيوبي إسحاق تفري أن التراث اليهودي لم يعترف باليهود الإثيوبيون الذين يسمون بـ”الفلاشا”، وتعنى المنفيون، إلا بعد تأسيس دولة إسرائيل بعد عام 1948، إذ اضطرت الدولة العبرية إلى الاعتراف بهم بغرض جلب آلاف منهم نحو إسرائيل لتقوية ديمغرافيتها ولاستخدامهم في الأعمال البسيطة، وتمت عدة عمليات لنقل يهود “الفلاشا” إلى إسرائيل بصورة جماعية، إذ كانت العملية الأولى عام 1977 بمسمى “عملية موسى الأولى”، وتم بموجبها نقل نحو 2500 شخص. أما العملية الثانية فكانت عام 1982 تحت مسمى “حق العودة”، وضمت نحو 25 ألف مهاجر، ثم “موسى الثانية” التي تعد الأشهر، إذ تمت عام 1984، وجرى خلالها نقل آلاف من “الفلاشا” إلى فلسطين جواً من السودان بتسهيلات قدمها الرئيس السوداني السابق جعفر نميري. وفي عام 1985 نفذت عملية “سبأ” لنقل “الفلاشا”، إذ بلغ عدد المهاجرين من يهود إثيوبيا نحو 20 ألفاً بدعم معلن من الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب. وفي بداية التسعينيات (1991) كانت “عملية سليمان”، إذ نقل نحو 20 ألفاً منهم تحت إشراف نائب رئيس الأركان الإسرائيلي أمنون شاحاك في عهد رئيس الوزراء السابق إسحاق شامير. أما آخر العمليات فسميت بـ”أجنحة الحمام”، وأجلي خلالها نحو 9 آلاف من المهاجرين الإثيوبيين عام 2012. وعلى رغم أن جميع تلك الهجرات كانت منظمة بطريقة رسمية وعبر اتفاقات بين الدولة الإثيوبية وإسرائيل فإن ثمة اعتقاداً ظل سائداً داخل قطاع واسع من الإسرائيليين بأن غالب المُرحّلين ليسوا يهوداً بالأساس، بل أشخاص راغبون في الهجرة من واقع الجوع والفقر نحو دولة توفر لهم سبل العيش، لذلك ظلوا يعانون العنصرية والاضطهاد داخل الوطن الجديد.
بين الأسطورة والتاريخ
ويرى تفري أن ثمة مسافة بين السرديات المروية ذات الطابع الأسطوري، وبين الأبحاث الأكاديمية الجادة والحرفية، ويؤكد الباحث الإثيوبي أن تاريخ اليهود في إثيوبيا يشير إلى الأشخاص الذين يمارسون العبادات اليهودية أو لديهم أصل يهودي داخل الحبشة التاريخية، موضحاً أن أكبر مجموعة يهودية في إثيوبيا هي “بيتا إسرائيل”، والمعروفة أيضاً باليهود الإثيوبيين. ويُنوّه تفري إلى أن أدبيات هذه المجموعة تشير إلى وجود مملكة أسطورية سميت بـ”مملكة سيمين”، وتعني الشمال باللغة الأمهرية، وتذهب الرواية إلى أنه في عصر الحاكم عيزانا (نحو 300 – 375 ميلادية) أحد ملوك مملكة أكسوم وأشهرهم، أعلنت المسيحية ديناً رسمياً لمملكة “أكسوم”، مما أدى إلى رفض السكان الذين كانوا يدينون باليهودية التحول إلى المسيحية وبدأوا في الثورة. ويؤكد الباحث الإثيوبي أن أدبيات مجموعة “بيتا إسرائيل” تزعم وقوع حرب أهلية بين السكان اليهود والسكان المسيحيين، وأدى ذلك إلى إقامة دولة يهودية مستقلة تقع في منطقة جبال سيمين ومنطقة دمبيا الواقعة شمال بحيرة تانا وجنوب نهر سيتيت، في حين لا توجد أدلة علمية وتاريخية تؤكد بصورة قاطعة صحة هذه الروايات.
الأهداف السياسية
ويضيف تفري أن رحلة الأثريين الإسرائيليين الأخيرة برئاسة بار كريبوس، تسعى إلى إثبات هذه المرويات الأسطورية، ربما لأسباب سياسية أكثر منها تاريخية أو بحثية. ويعتقد أن بعضهم دوافع هذه الرحلة الاستكشافية تتعلق بأسباب داخلية في إسرائيل نفسها، لا سيما في ظل شعور الاضطهاد الذي تشعر به المجموعة الإثيوبية في المجتمع الإسرائيلي، فيهود “الفلاشا” الذين نقلوا إلى إسرائيل بجانب أنهم أسكنوا في المناطق الحدودية مع الدول العربية التي تعتبر مناطق ساخنة عانوا تمييزاً في مقاعد الدراسة وفي سوق الشغل، بل وحتى أثناء ممارسة طقوسهم الدينية أو مهماتهم الرسمية. ويُذكّر تفري بالمظاهرات السلمية التي قادها مجتمع “الفلاشا” داخل إسرائيل عام 2015، إذ انتفضوا ضد التمييز والاضطهاد، وتعرضوا للتنكيل من قوات الأمن. ويشير إلى أن جندياً إسرائيلياً من “الفلاشا” تعرض للاعتداء من الشرطة أمام أعين الكاميرات، مما أثار جدلاً واسعاً حول واقع العنصرية الذي تعانيه هذه الفئة، مما اضطر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى استقبال الجندي الذي تعرض للاعتداء بغرض تهدئة الجالية الإثيوبية. ويرجح تفري أن واقع الحرب التي تخوضها تل أبيب الآن في غزة ولبنان بحاجة كبيرة إلى تقوية الجبهة الداخلية، بخاصة أن معظم “الفلاشا” يخدمون داخل الجيش الإسرائيلي، بالتالي فإن الحديث عن الأصول اليهودية القديمة في إثيوبيا، وتثبيت يهودية “الفلاشا” أمام حملات التشكيك والاضطهاد السائدة في المجتمع، قد يقوي اللحمة الداخلية. ويختم إسحاق تفري حديثه لـ”اندبندنت عربية” بالقول إن “البعثة الإسرائيلية لا تزال في مرحلة دراسة مدى جدية الادعاءات حول وجود مملكة يهودية تاريخية في إثيوبيا، وإن الحكم على جهودها لن يتكشف إلا بعد قراءة نتائج البحث للحكم على ما إذا كانت اتبعت القواعد العلمية والتاريخية للوصول إلى الحقيقة أم أنها بعثة سياسية أتت لصياغة واقع متخيل، بخاصة أنها مبتعثة من القسم المعني بالتاريخ الإثيوبي في مركز التراث اليهودي بالقدس”.
وللحديث بقية…