
في المدن التي تفقد رواتها، تبهت الحكايات…
لكن بيروت، وإن ودّعت زياد، بقيت تتكلم بلهجته، تلعن مثله، تغني مثله، وتضحك من شدة الوجع مثله.
اليوم، ترجل آخر شعراء النكتة السوداء، آخر من قال الحقيقة كما هي… دون “إخراج مسرحي”.
رحل زياد الرحباني، وبقيت بيروت تُعيد حواراته في المقاهي والمسرحيات وعلى جدران الذاكرة.
الرحيل المفاجئ: وداع رجل لم يعقد هدنة مع النفاق
توفي زياد صباح يوم السبت 26 تموز 2025، في أحد مستشفيات العاصمة اللبنانية، بعد صراعٍ مع المرض، عن عمر ناهز 69 عامًا.
وأكدت عائلته في بيان مقتضب أن “زياد غادرنا بسلام، محاطًا بأحبّائه”، لتبدأ بيروت طقوس الحزن الخاص، الحزن الذي لا يعلنه الجميع… لكن يشعر به الكل.
نعاه رئيس الجمهورية جوزيف عون بقوله:
“برحيله، طُويت صفحة جريئة من صفحاتنا الثقافية”.
ونعاه رئيس الحكومة نواف سلام قائلاً:
“كان صوت الناس، حين صمت الجميع.”
المسرح: ساحة معركة ضد القبح السياسي والاجتماعي
زياد لم يكن فنانًا نمطيًا، بل صانع مسرح مشاغب، يخلط الكوميديا بالسخرية، والوجع بالضحك، ليكشف ما لا يُقال.
قدّم أعمالاً أصبحت مرجعًا في “فنّ المقاومة اليومية”:
• “بالنسبة لبكرا شو؟”
• “فيلم أميركي طويل”
• “شي فاشل”
• “نزل السرور”
• “بخصوص الكرامة والشعب العنيد”
شخصياته تشبهنا: مهزومون، متعبون، نتحايل على الحياة، لكن لا نستسلم.
موسيقاه… مرآة مدينة ضائعة
إلى جانب المسرح، كان زياد موسيقيًا ومُلحنًا عبقريًا، مزج الجاز بالتراث اللبناني، ليصنع صوتًا لا يُقلَّد.
غنّت فيروز من ألحانه أغنيات لا تموت، منها:
• “سألوني الناس”
• “كيفك إنت”
• “عودك رنان”
• “بلا ولا شي”
كانت موسيقاه تشبهه: حزينة، ساخطة، أنيقة، ولا تُطرب السلطة.
الفن المقاوم: بين فلسطين والطبقة المسحوقة
زياد لم يخفِ يوماً موقفه السياسي. انتمى إلى اليسار اللبناني، ووقف علنًا إلى جانب المقاومة الفلسطينية، وهاجم النظام الطائفي والطبقة السياسية بشراسة.
قال في أحد لقاءاته:
“الحياد خيانة، وإذا ما بتوقف مع الفقير، ما تكون واقف قدّام الظالم، بتكون واقف حدّو.”
قاوم عبر الفن، وعلّم جيلًا كاملًا أن السخرية سلاح، وأن الضحك فعل احتجاج.
زياد الإنسان: بين الهامش والمركز
لم يسعَ زياد يوماً ليكون نجمًا، ولم تغره الأضواء.
كان يكتب من مقاهي بيروت الشعبية، يلتقي الناس في الشوارع، يضحك مع الفقراء، ويشتُم مع العاطلين عن العمل.
ولأنّه “واحد منهم”، أحبّوه… ولم يغفروا له فقط، بل تابعوا مسيرته لأنهم رأوا فيها أنفسهم.
هل مات زياد؟
زياد لم يمت، هو فقط غادر الجسد.
لكن كلماته تُتلى يوميًا، وألحانه تُعزَف بلا استئذان، ونكاته تعود كلما ضاقت بيروت.
مات الراوي…
لكن المدينة، المنكوبة بالزيف، ما زالت تهمس بلهجته.