صحافة وآراء

‏كيف انحرفت الانتخابات عن مسارها

الدكتور ليث شبر

لم تعد الانتخابات في العراق مناسبةً ديمقراطية بالمعنى الذي وُلدت من أجله، بل تحولت إلى موسمٍ انتخابي يتكرّر كل بضع سنوات، تتبدل فيه الوجوه ولا يتبدل فيه الجوهر.

لقد كانت الغاية منها أن تكون أداةً لتداول السلطة، فصارت وسيلةً لإعادة إنتاجها. وكان يُفترض بها أن تُعبّر عن إرادة الشعب، لكنها باتت تُدار لتأكيد هيمنة فئةٍ محددةٍ من الطبقة السياسية التي استطاعت أن تُخضع القانون، والإعلام، والمال، وحتى مؤسسات الدولة، لخدمتها.

الانحراف لم يبدأ من الصناديق، بل من الفكرة ذاتها حين جرى تفريغها من محتواها. فالقانون الذي يُفترض أن يضمن تكافؤ الفرص بين المرشحين صُمِّم بطريقةٍ تُناسب الكبار ممن في القرار والحكم . وإذا كان قانون الانتخابات يحفز المناطقية والطائفية والإثنية فإن قانون الأحزاب مازال معطلا في محاسبة وأقصاء الأحزاب المسلحة والفاسدة..

ثم جاءت الحملات الانتخابية لتكشف هشاشة الوعي الجمعي وعمق التشوه الأخلاقي في الممارسة السياسية. فبدلاً من النقاش حول البرامج، امتلأت الشوارع بصورٍ عملاقةٍ لوجوهٍ سئمناها ووجوه التصقت بهم رغم فسادها، وكأن الإنفاق الباذخ على اللافتات والولائم والولاءات كافٍ لشراء شرعيةٍ لا يملكها أصحابها. في المقابل، وفي خضم كل ذلك لم يجد المرشح المستقل سوى شبكات التواصل الاجتماعي وسيلةً للتعبير، وسط مليارات من المال السياسي والإعلام المسيس.

أما البرامج، فبقيت شعاراتٍ عائمةٍ لا علاقة لها بواقع الدولة ولا بمشروعها المستقبلي. فلم نقرأ عن خطةٍ اقتصاديةٍ واضحة، ولا عن إصلاحٍ إداريٍّ جاد، ولا عن رؤيةٍ لبناء دولة مستقبلية كتلك التي نؤمن بها. وانشغل المرشحون بصورهم ودعاياتهم التي غالبا ماكانت تعبر عن انحطاط وقلة ذوق وعدم فهم لوظيفة النائب وقسم منهم يتحدث عن محاربة الفساد وكأن الفساد مخلوقٌ مجهول لا ينتمي إلى أحد، ويتحدث عن الإصلاح وكأن الدولة تدار من كوكبٍ آخر.

ثم جاءت المقاطعة لتُعبّر عن وعيٍ شعبيٍّ غاضبٍ ولكنه يائس. فالملايين الذين قرروا عدم المشاركة ليس لديهم سوى مشروع المقاطعة وليس هناك ما يبدو واضحا فيما بعد المقاطعة .

إن أخطر ما أنتجته هذه الدورات المتلاحقة من الانتخابات هو فقدان الثقة بين المواطن والدولة، وبين الصندوق والضمير. فحين يُصبح التصويت تجارة، والمقاعد غنائم، والتحالفات صفقات، والمرشحون بهذا المستوى تضيع الفكرة الكبرى التي من أجلها قُدِّم هذا النموذج الديمقراطي إلى الشعوب.

ولذلك فإن استعادة المعنى الحقيقي للانتخابات لا يمكن أن يتم عبر تجميل القانون أو قرارات وقتية أو تحسين العدّ والفرز الإلكتروني، بل عبر إعادة بناء البيئة السياسية من جذورها. نعم يجب أن نعيد تعريف المواطنة قبل أن نُعيد صياغة الصندوق، وأن نؤسس لمفهوم المشاركة الواعية لا المشاركة المؤدلجة أو المشتراة، وأن نُعلّم أنفسنا أن الانتخاب ليس بيعةً ولا ولاءً، بل عقدٌ اجتماعيٌّ بين الإنسان والدولة.

هكذا فقط يمكن أن تعود الانتخابات إلى مسارها، لا كآليةٍ شكليةٍ للشرعية، بل كأداةٍ لبناء الدولة المدنية الذكية السيادية النابضة التي تُنتج قادتها من وعي الناس لا من جيوبهم، وتُقاس فيها القوة بعمق الفكر لا بحجم اللافتة. وحينها فقط سيصبح الصندوق مرآةً حقيقيةً للإرادة الوطنية، لا مرآةً مشوهةً لسلطةٍ فقدت معناها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى