تحليل إخباري

ما وراء الجدران السوداء للموساد: يوسي كوهين يتحدث عن التكنولوجيا، الفشل، ونتنياهو

ريم حسن خليل

  • اعترافات الرئيس الأسبق للموساد في بودكاست The Brink تكشف خبايا “الذكاء الاصطناعي الإسرائيلي” وخلل القرار السياسي

في حديثٍ يوصف بأنه الأكثر صراحة في تاريخ المؤسسة الاستخباراتية الإسرائيلية، كشف يوسي كوهين، الرئيس الأسبق لجهاز الموساد، عن تفاصيل حساسة تتعلق بالتكنولوجيا التي توظفها إسرائيل في عملياتها السرية، وبالخلل البنيوي في التنسيق بين أجهزتها الأمنية.
جاءت هذه التصريحات ضمن بودكاست “The Brink” الذي يقدمه الإعلامي البريطاني اليهودي “جيك واليس سيمونز” وضابط المظلات الأمريكي السابق “أندرو فوكس”، في حلقة نشرت يوم 16 أكتوبر 2025 بعنوان:

“Mossad Spymaster Reveals the Truth About Espionage, Netanyahu, Pagers, Qatar and The Propaganda War.”

نزرع التقنية داخل العدو- فلسفة السيطرة المسبقة

اعترف كوهين بأن الموساد تبنّى منذ مطلع الألفية ما سماه “الجيل الثالث من الاستخبارات”، وهو مزيج من الاختراق السيبراني والهندسة التقنية الميدانية، هدفه “حسم الحروب قبل أن تبدأ”.

وقد قال “هل تعرف كم عدد المعدات المعالجة التي لدينا في البلدان؟ لا يمكنك ذلك… أنا أعرف”. يشرح كوهين أن “المعدات المعالج” (treated equipment) تشير إلى أجهزة مزروعة مسبقًا في شبكات خصوم إسرائيل، تُمكّن تل أبيب من تعطيل منظوماتهم أو استغلالها استخباريًا عند الضرورة. لكن في المقابل، يعترف أن هذه الشبكة التقنية لم تشمل قطاع غزة بالقدر المطلوب، قائلاً بوضوح: “ليست غزة. هذا لا يكفي”.

العبارة القصيرة، التي التقطها مقدما البرنامج بدهشة، بدت كإقرار ضمني بأن “الذكاء الاصطناعي الإسرائيلي” لم يكن حاضرًا على جبهة غزة، وأن فشل التغطية التقنية ساهم في “مفاجأة” 7 أكتوبر 2023.

وعلى مدي ساعة وربع هي مدة المقابلة، يروي “يوسي كوهين” بالتفاصيل كيف طوّر الموساد على مدى ربع قرن فكرة “التلاعب بأجهزة الاتصال” لتُصبح “سلاحاً استراتيجياً” أثبت مدى فعاليته في الحرب الأخيرة مع حزب الله في لبنان عندما نجحت عملية تفجير أجهزة النداء (البيجر) المفخخة عن بُعد، سبتمبر 2024، في “إسقاط العشرات من عناصر الحزب وتوجيه ضربة قاصمة لمعنويات قيادته السياسية والعسكرية” عبر أجهزة اتصالات “تلاعبت بها إسرائيل”. ثم يضيف بسعادة: “لم تكن غزوة البيجر سوى جزء من عملية منهجية أوسع نطاقًا للتلاعب بأحدث أجهزة الاتصال في جميع أنحاء العالم”.

ويوضح كوهين أن هذه الاستراتيجية الاستخباراتية الفتاكة لا تعتمد فقط على “تفخيخ” معدات الاتصال، بل تتطلّب قدرات تكنولوجية هائلة للتحكّم فيها عن بُعد و”التلاعب كما تشاء” بذاكراتها الإلكترونية و”اختراق” بياناتها، مشيراً إلى أنه طوّرها شخصياً بين عامي 2002 و2004 بالتعاون مع “شريكه الأمثل” رئيس قسم التكنولوجيا في الموساد، وإلى أن “نقطة التحوّل” في تنفيذها كانت بالتوجّه إلى “اختراق سلاسل التوريد لتلك المعدات في جميع الدول التي نرى فيها عدوًا كامنًا أو جبهة حرب محتملة”، فيقول: “إذا علمتُ أن إيران أو دولًا أو منظمات أخرى تشتري شيئًا ما، يمكنني أن أكون جزءًا غير مرئي من سلسلة استيرادهم لذلك الشيء”.

رئيس الموساد السابق أكد أن استراتيجية التلاعب بالمعدات “جُرّبت بالفعل في حرب لبنان الثانية عام 2006”. وبينما كرّر الإشارة إلى “اتساع الرقعة الجغرافية” التي تستهدفها تلك الاستراتيجية التجسسية إلى بقاع مختلفة من العالم، رافضًا تسمية بلدان محددة، فقد أصرّ بنبرة يقين على أن “معدات الاتصال المُخترقة إسرائيليًا تنتشر في كل مسرح عمليات محتمل تقريباً، وفي كل البلدان التي يمكنكم تخيلها”.

وعلى أنغام “التباهي والمفاخرة” التي عزف عليها “كوهين” في حديثه للبودكاست عن “إعجاز” القدرات الاستخباراتية للموساد و”إبداع” استراتيجيته “التلاعبية”، جاءت “المفاجأة النشاز” باعترافه -والألم يعتصر صوته- أن جبهة غزة كانت “الاستثناء”، عندما سُئل عن مدى النجاح الاستخباراتي الإسرائيلي داخل القطاع.

أجهزة تتناحر… والميدان يدفع الثمن

بحسب كوهين، لم يكن العجز في غزة نتاج نقص الموارد، بل نتيجة صراع داخلي بين الأجهزة الأمنية.
قال خلال الحوار: “عندما أردت التوسع في غزة، واجهت عقبات كبيرة — الشين بيت، أمان، السياسيون. كان لكل منهم مجاله الخاص”.

يصف هذا التعليق أزمة مزمنة داخل النظام الأمني الإسرائيلي، حيث تتنافس ثلاث مؤسسات رئيسية على “ملف غزة”:

  • الموساد (الاستخبارات الخارجية)
  • الشاباك (الأمن الداخلي)
  • أمان (الاستخبارات العسكرية)

غياب التنسيق بين هذه الأجهزة وتسييس قراراتها جعل من غزة “الثغرة الأضعف” في شبكة المراقبة الإسرائيلية، كما عبّر أحد المعلقين في القناة 12 العبرية لاحقًا.

حين تتقدّم السياسة على الاستخبارات

لم يكتفِ كوهين بالحديث عن التقنية، بل وجّه نقدًا مبطنًا إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ملمّحًا إلى أن قرارات الحرب والسلم كثيرًا ما اتُّخذت دون استناد فعلي للتقارير الاستخباراتية.

يؤكد كوهين أن “القيادة السياسية” تجاهلت مرارًا تقديرات الأجهزة، خصوصًا خلال الأعوام التي سبقت هجوم أكتوبر، حيث حذّر بعض الضباط من مؤشرات “غير اعتيادية” في تحركات حماس.
بهذه اللهجة المتزنة، قدّم كوهين شهادةً تُعدّ الأولى من نوعها لمسؤول بهذا المستوى، تُحمّل نتنياهو المسؤولية السياسية -ولو ضمنيًا- عن “الخيبة الاستخباراتية” الكبرى.

قطر والإعلام والحرب الرمزية

جزء آخر من المقابلة تناول ما أسماه كوهين “معركة السرديات”، معتبرًا أن الإعلام أصبح ساحة حرب موازية لا تقل أهمية عن الميدان العسكري. كمت اتهم كوهين قطر بقيادة “شبكة تأثير إعلامي” تضر بصورة إسرائيل في الغرب، مؤكدًا أن تل أبيب لم تُطوّر بعد أدواتها لمواجهة “الحرب الرمزية” على المنصات الرقمية.

وفي سياق حديثه عن “الخسائر الفادحة” التي كان يمكن تجنبها لو توفرت المعلومات الاستخباراتية الكافية قبل هجوم 7 أكتوبر، أشار ‘كوهين’ إلى ما وصفها بـ “الفرصة الضائعة”، مستطردًا: “كنا نعرف شيئًا عن قدومهم، أليس كذلك؟ كان المفروض أن نبيع لهم (أي حماس) كل الأجهزة.. ببساطة، كل شيء يمكن اختراق”.

وفي سياق تبريره لهذا الإخفاق، أفصح ‘يوسي كوهين’ عن خبايا “صراع داخلي ومقاومة مؤسسية ضارية” واجهته عندما حاول تولي مسؤولية العمليات الاستخباراتية المتعلقة بقطاع غزة قبل 7 أكتوبر. بل وكشف أنه “حُظر” من قِبل جهاز الأمن العام (الشاباك)، ومن مديرية استخبارات الجيش الإسرائيلي، بسبب ما وصفه بثقافة “الغطرسة المؤسسية”، فيقول نصًا: “تقول الثقافة في هذه المؤسسات: نحن بخير، لسنا بحاجة إليكم، نحن بخير، لا تُملوا علينا ما نفعله، نحن جيش الدفاع الإسرائيلي، نحن الشاباك.”

تكشف مقابلة كوهين أن أسطورة التفوق الاستخباراتي الإسرائيلي تعرضت لتصدع عميق. فغزة ليست فقط جبهة عسكرية، بل اختبار لقدرة التكنولوجيا والاستخبارات والسياسة الإسرائيلية على العمل بتناغم.

من “الذكاء الاصطناعي” إلى “الخيبة البشرية”، تمتد خيوط القصة وراء جدران الموساد السوداء، حيث يقرّ أحد أعمدته بأن “التحكم المطلق” الذي تباهت به إسرائيل لسنوات لم يكن سوى وهم تقني سقط أمام واقع غزة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى