اقتراب ساعة الصفر مع تصاعد مخاطر نشوب حرب نووية
د. أيمن أبو الشعر - موسكو "ماتريوشكا نيوز"
بولونيا تستعد لنشر أسلحة نووية فوق أراضيها وموسكو تعلن أن وارسو بذلك تجعل نفسها عرضة للتدمير في حال الصدام مع الناتو.
ارهاص منذ عشرات السنين
أعادت تصريحات الرئيس البولوني دودا حول نشر أسلحة نووية في بلاده إلى ذهني لقاء قديما قبيل انهيار الاتحاد السوفييتي مع الشاعر البولوني مارك فافكيفيتش، كان ذلك إبان مهرجان بوشكين، وقد تطور أحد أحاديثنا حول الأوضاع في بولونيا التي تثير إشارات استفهام جدية حول مدى إمكانية تحول بولونيا إلى الضفة الأخرى تماما، وكان ملخص ما نوه به مارك فافكيفتش أن الأوضاع هناك في مرحلة ارهاص حقيقية، ورجح قرب انفجار الأوضاع، وأن حركة التضامن التي قادت في تلك المرحلة نشاطا مناهضا للاتحاد السوفييتي سوف تبدو مواقفها وسطية إذا ما قورنت بالقادمين بشعارات مناهضة تماما للكتلة الاشتراكية، وتوقع خروج بولونيا قريبا من حلف وارسو، ولم يستثن أن يكون مصيرها في نهاية المطاف داخل حلف الناتو… وجاء تعبيره على ما أذكر بهذا الشكل: “لا تستغرب إن باتت بولونيا نفسها عضوة في الناتو”.
والواقع أن ولونيا ظلت حالة إشكالية جدية بالنسبة لموسكو حتى قبيل انهيار الاتحاد السوفييتي، ولم تلبث أن تحولت إلى نقيض دورها الذي أوكلته لها الدول التي كانت تسمى الكتلة الشرقية، وكانت العاصمة البولونية وارسو مقرا للحلف الذي نشأ في مواجهة حلف شمال الأطلسي ، حتى أن هذا الحلف المواجه للناتو سمي باسم العاصمة البولونية “حلف وارسو”، ومن هنا انقلب موقف بولونيا 180 درجة لتغدو نفسها عضوة في حلف الناتو كما توقع “الشاعر البولوني فافكيفتش”.
جذب الانتباه بالنار
إن أشهر عمليات الانتحار التي تنفذ عادة احتجاجا على أمر ما هو حرق الشخص لجسده أمام الكاميرات لكي يصل موقفه إلى أكبر عدد ممكن من الناس، وأرجح أن تدخل تصريحات الرئيس البولندي الأخيرة في هذا المجال حيث جاءت بعد زيارته إلى الولايات المتحدة، وكان لا بد من لفت الأنظار بتصريحات نارية، وبالفعل أشعلت هذه التصريحات فتيل الهواجس باقتراب ساعة الصفر النووية، حيث أعلن بوضوح استعداد بلاده نشر أسلحة نووية على أراضيها في حال قرر الناتو تعزيز جبهته الشرقية لمواجهة روسيا التي نشرت أسلحة جديدة في بيلاروسيا، رغم أن نشر روسيا لهذه الأسلحة كان ردا على عدائية الغرب ونشر أسلحة نووية في أوروبا موجهة عمليا ضد روسيا، حتى أن موسكو ألمحت بأنها على استعداد لسحب هذه الأسلحة إن سحبت واشنطن الأسلحة النووية الأمريكية من أوروبا، لذا فإن حجة الرئيس البولوني واهية في هذا المجال.
رد موسكو الهادئ
ولم يتأخر رد موسكو حيث أعلن وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف أن الدول الغربية باتت تتأرجح بشكل خطير على شفا صدام عسكري مباشر بين القوى النووية، الأمر الذي تترتب عليه عواقب كارثية، جاء ذلك في رسالة عبر الفيديو وجهها لافروف إلى المشاركين في مؤتمر موسكو لمنع انتشار الأسلحة النووية، وأضاف الوزير الروسي أن القلق يزداد نتيجة أن الثلاثي النووي الغربي ” المقصود الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا” يغالي في دعم نظام كييف، وهو المبادر الرئيس لمختلف الخطوات الاستفزازية، ما سيؤدي حسب لافروف إلى تحفيز مخاطر استراتيجية جدية وترفع إلى حد كبير مستوى الخطر النووي في العالم.
وركز لافروف على الربط بين الأوضاع في أوكرانيا وتنامي مخاطر الصدام المحتمل بين روسيا ودول الغرب النووية انطلاقا من شغف الولايات المتحدة ودول الناتو بفكرة إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، وبالتالي هي مستعدة لدفع كييف لمتابعة الحرب حتى آخر جندي أوكراني، منوها بأن الغرب بقيادة الولايات المتحدة يسعى لتحقيق التفوق، وذلك من خلال فرض قيود جديدة على الترسانات النووية الموجودة عند خصومه، وشدد على عدم وجود أساس للحوار مع الولايات المتحدة بشأن الاستقرار الاستراتيجي، ومع ذلك أوضح لافروف بأن موسكو على استعداد للعودة إلى مسألة المصادقة على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، ولكن إن قامت واشنطن هي الأخرى بالأمر ذاته، وذكّر بأن الكونغرس الأمريكي رفض عام 1999 المصادقة على تلك المعاهدة، وأنَّ سحب روسيا مصادقتها كان ردا على الموقف الأمريكي، ونوه لافروف بأن ذرائع واشنطن بشأن احتمال نشر أسلحة نووية في الفضاء واهية وسخيفة، وأن موسكو ترغب في الحفاظ على السلام في الفضاء أيضا، وأن موسكو تدعو لصياغة وثيقة دولية ملزمة قانونيا لمنع انتشار الأسلحة في الفضاء الخارجي ، مذكرا بمشروع معاهدة بهذا الصدد قدمته روسيا والصين في مؤتمر نزع السلاح.
رد موسكو الساخن
تصريحات الرئيس البولوني استدعت كذلك ردا ساخنا من الكرملين، حيث أعلن بيسكوف الناطق الرسمي باسم الكرملين أن الدفاع الروسية ستقوم بتحليل هذا الوضع، ومن المؤكد أنهم سيتخذون جميع الإجراءات المضادة اللازمة في مثل هذه الحالة.
ويجيء التحذير الحاسم الذي يشبه التهديد الاستباقي على لسان الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا مختصرا وواضح المعالم، حيث أكدت أن بولونيا مهووسة بالسعي لجذب الاهتمام بها، وأن وارسو ستضع نفسها في بؤرة الخطر، فحين تظهر أسلحة أمريكية نووية في بولونيا ستصبح ضمن الأهداف المشروعة للتدمير عند حدوث صراع مباشر بين روسيا والناتو، والمشكلة الحقيقية ليست في زوال بولونيا من على الخارطة بل في أن حربا كهذه لن تتكرر في هذا العالم، لأنه لن يستمر في الوجود إن حلت ساعة الصفر فعلا.
هل هو تراجع
تصريحات من النوع الثقيل كهذه استنفرت مشاعر الرهبة حتى داخل بولونيا نفسها، فقد أعلن دونالد توسك رئيس الوزراء البولوني أنه يود أن يلتقي بالرئيس دودا بعد نشر تلك التصريحات غير العادية، وأنه يرغب في مناقشته ومعرفة الدوافع التي دفعته لتلك التصريحات، وأنه يريد فهم نوايا الرئيس، داعيا إلى تحضير المبادرات النوعية بشكل جيد ومن الأشخاص المسؤولين عنها، كما ركز على ضرورة أن يستوعب جميع التفصيلات والخلفيات. ويلفت النظر أن الرئيس دودا سارع بعد ذلك إلى الإعلان مجددا، وبقوة شديدة حسب تعبيره لكيلا يكون هناك شك وتأويل: “أنه لم يتم اتخاذ أي قرار بهذا الشأن” – يقصد نشر أسلحة نووية أمريكية فوق الأراضي البولونية- لكنه نوه بأن المفاوضات جارية بهذا الشأن وأن بولونيا جزء من حلف الناتو منذ 25 عاما وهي بالتالي منفتحة في هذه المباحثات، بقي أن نشير أن معظم الذين قاموا بحرق أنفسهم امام الكاميرات قد ماتوا، ونسيهم الإعلام بعد حين.