تحليل إخباري

اتفاق سري بين أردوغان وترامب على إبقاء حماس بغزة

إيف أحمد

في تصريح صادم بثّته القناة 12 العبرية، عبّر الجنرال إسحاق بريك، أحد أبرز المحللين العسكريين في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، عن دهشته العميقة مما يجري في غزة بعد إعلان وقف الحرب. فالرجل الذي كان من بين أكثر المتحمسين لفكرة نهاية حركة حماس ودفنها تحت الركام، وجد نفسه اليوم أمام مشهد يعجز عن تفسيره. تساءل بريك بوضوح: ما الذي يجعل حماس تعود إلى السيطرة الميدانية بهذه السرعة وهذا الحسم؟ ومن منحها الثقة لتعيد نشر سبعة آلاف شرطي مسلح في أقل من أربعٍ وعشرين ساعة من إعلان وقف الحرب، وعلى مقربة مئات الأمتار فقط من جيش الدفاع الإسرائيلي؟

اعتراف بريك حمل في طيّاته صدمة عسكرية حقيقية داخل المؤسسة الإسرائيلية، إذ إن ما يجري على الأرض لا يشبه أياً من التوقعات التي بُنيت عليها الحرب. فالحسابات التي بشّرت بنهاية حماس انهارت أمام واقع جديد؛ حركةٌ كانت تُوصَف بأنها انتهت، تعود اليوم بنظام إداري وأمني متماسك، تعيد تشغيل البلديات والمستشفيات، وتؤمّن الكهرباء والمياه والنظافة العامة، وتعيد المصرف المركزي في دير البلح إلى العمل، وتفرض رقابة اقتصادية صارمة لمنع الاحتكار والمضاربة. هذه ليست ملامح فوضى ما بعد الحرب، بل مظاهر دولة تستعيد وظائفها من تحت الرماد.

لقد نجحت حماس، خلال أيام قليلة، في إعادة إحياء مؤسساتها المدنية وكأنها كانت في حالة سبات مؤقت لا في قلب معركة إبادة استمرت عامين. ويصف بريك بدقة مذهلة أن الحركة لم تنجُ فحسب، بل استعادت موقعها كسلطة أمر واقع معترف بها ضمناً من الجميع، بما في ذلك الأمم المتحدة والأونروا اللتان تتعاونان معها في توزيع المساعدات وتأمين الطرقات. حتى خطابها السياسي تغيّر، فحين تطلب الحركة من المجتمع الدولي تطبيق أحكام محكمة الجنايات الدولية بحق مجرمي الحرب الإسرائيليين، فإنها لا تتحدث من موقع المظلومية بل من موقع الفاعل السياسي والقانوني.

ما يقوله بريك يتجاوز مجرد توصيف عسكري، فهو يقرّ بأن حماس باتت كياناً يمتلك شرعية ميدانية وشعبية وتنظيمية يصعب على أي بديل، سواء السلطة الفلسطينية أو الإدارة المؤقتة التي بشّرت بها واشنطن، أن ينافسها فيها. لكن أخطر ما في كلامه تلك الجملة التي ختم بها تحليله: “ما يجري الآن في الميدان ليس له إلا تفسير واحد: حماس لها تفويض سري لا يعلمه إلا اثنان، ترامب وأردوغان.” هذه العبارة الغامضة تفتح الباب أمام فرضية وجود تفاهمات غير معلنة، ربما برعاية أمريكية تركية، تتيح لحماس إدارة مرحلة “اليوم التالي” في غزة ضمن ترتيبات أوسع للمنطقة.

بهذا المعنى، يعترف بريك من حيث لا يدري بأن إسرائيل لم تنتصر عسكرياً، بل منحت حماس شرعية ميدانية غير مسبوقة. فاليوم الذي وُعد به الإسرائيليون بأنه “اليوم التالي لحماس”، بدأ فعلاً، لكنه بدأ على طريقتها. من ظنّ أنه سيصادر سلاحها، وجدها تعود إلى الشوارع لتنظم الحياة وتوزع الخبز والماء وتؤمّن الأسواق. ومن راهن على إقصائها عن الحكم، وجدها تحكم من جديد، ولكن بوعي وتجربة مضاعفين.

غزة اليوم تبدو كما لو أنها معجزة أربكت العقول. فالمدينة التي أرادوا دفنها، نهضت من تحت الركام لتعلن ميلادها من جديد. لم تنتظر مؤتمرات الإعمار ولا تفاهمات الإذلال، بل شرعت في بناء نفسها بنفسها، وفرضت على العالم التعامل معها كسلطة ناضجة ومتماسكة. وهكذا يتحول “اليوم التالي للحرب” إلى اليوم الأول لمرحلة جديدة تتصدر فيها المقاومة المشهد، لا بوصفها بندقية فقط، بل منظومة حكم وصمود ومعنى.

خلاصة ما كشفه بريك ليست مجرد تحليل عسكري، بل وثيقة سياسية تنطق من داخل المؤسسة الإسرائيلية نفسها، لتقرّ من دون قصد بأن حماس ربحت معركة البقاء، بل ربما ما هو أعمق من ذلك: ربحت معركة الوعي والسيادة. أولئك الذين انتظروا جنازتها، يراقبون اليوم عودتها المنظمة إلى الميدان، ومن ظنّ أن الحرب دفنتها، يكتشف أنها، كطائر الفينيق، لا تموت، بل تنهض من رمادها أكثر قوةً وشرعيةً وتأثيراً.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى