
غزة التي جرّدت نتنياهو من “ريشه السياسي”: قراءة في سقوط الدائرة الضيقة لرئيس وزراء إسرائيل
ريم حسن خليل
منذ السابع من أكتوبر 2023، تاريخ عملية “طوفان الأقصى”، يعيش كيان الاحتلال الإسرائيلي حالة غير مسبوقة من التآكل الداخلي. فالحرب التي أرادها بنيامين نتنياهو بوابة لاستعادة هيبته المفقودة، تحولت إلى معركة وجودية تقضم من رصيده السياسي يوماً بعد يوم، وتكشف عريه أمام شعبه وحلفائه.
أحدث تجليات هذا الانهيار تمثلت في التقرير “الحصري” الذي نشرته صحيفة يسرائيل هيوم المحسوبة على اليمين الإسرائيلي، والذي كشف عن نية وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر الاستقالة من منصبه منتصف نوفمبر المقبل (1).
لكن ما يبدو خبراً عادياً في المشهد السياسي الإسرائيلي، يُقرأ في الواقع كـ “زلزال هادئ” داخل منظومة نتنياهو، إذ إن ديرمر ليس وزيراً عادياً، بل هو أقرب المقربين إليه منذ ربع قرن، وصديقه الذي يوصف بـ “كاتم الأسرار” ومهندس العلاقات بين تل أبيب وواشنطن (2).
رون ديرمر… سقوط الظلّ
استقالة ديرمر تأتي في لحظة فارقة من مسيرة نتنياهو السياسية، فهي ليست مجرد مغادرة شخصية حكومية، بل انكشاف جديد في محيط الرجل الذي طالما قدّم نفسه باعتباره “سيد اللعبة” في العلاقات مع الولايات المتحدة.
ديرمر، الذي شغل منصب سفير إسرائيل في واشنطن بين عامي 2013 و2021، لعب دوراً محورياً في نسج التحالف مع إدارة ترامب وصياغة اتفاقيات أبراهام (3). كما كان الصوت الذي يحمي نتنياهو من غضب الديمقراطيين في الكونغرس، ويُنسّق رسائل “بيبي” في أروقة البيت الأبيض.
لكن بعد عام من حرب غزة، ومع تزايد الضغوط الأمريكية والغضب الداخلي، قرر الرجل أن يترجّل عن صهوة المركب المتشقق. وبحسب تسريبات الصحيفة العبرية، فقد عبّر ديرمر أمام مقربين عنه عن “عدم رغبته في البقاء في حكومة تتآكل مصداقيتها يوماً بعد يوم” (1).
انهيار الدائرة المقربة
استقالة ديرمر لم تكن سوى حلقة جديدة في مسلسل الانهيارات الذي يضرب مؤسسات القرار في إسرائيل منذ خريف 2023.
فقد سبقه هرتسي هاليفي، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، الذي أعلن تحمّله مسؤولية الفشل في التصدي لهجوم السابع من أكتوبر (4). وتلاه أهارون هاليفا، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، الذي كتب في بيان استقالته: “إدارتي فشلت في مهمتها وأنا أتحمل المسؤولية الكاملة” (4).
ثم توالت الانسحابات: رئيس مديرية العمليات أوديد باسيوك، وقائد فرقة غزة آفي روزنفيلد، ورئيس فيلق العمق نمرود ألوني، وقائد القيادة الجنوبية يارون فينكلمان، وصولاً إلى قائد سلاح الجو تومر بار الذي أعلن رفضه تمديد خدمته (5).
أما في الحكومة، فقد اشتدّت العاصفة حين أقال نتنياهو رئيس جهاز “الشاباك” رونين بار بعد صراع علني، متهماً إياه بـ”فقدان الثقة”، بينما وصف الأخير القرار بأنه “مسيس لتغطية إخفاقات الحكومة في مواجهة حماس” (6).
وفي نوفمبر 2024، أقال نتنياهو وزير دفاعه يوآف غالانت، في خطوة زادت الانقسام داخل حزب الليكود (7). كما استقال عضوا مجلس الحرب بيني غانتس وغادي أيزنكوت في يونيو 2024، ما أفقد حكومة الطوارئ توازنها وأضعف صورتها أمام المجتمع الإسرائيلي والعالم (8).
واشنطن… من الشريك إلى الخصم الصامت
على المستوى الخارجي، باتت العلاقة بين نتنياهو وواشنطن في أسوأ حالاتها منذ عقود.
فقد نقلت تقارير بوليتيكو وأكسيوس أن إدارة بايدن باتت ترى في نتنياهو “زعيمًا غير موثوق به” وغير قادر على إدارة مرحلة ما بعد الحرب في غزة (9).
وفي يوليو 2024، هدّد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بتجميد بعض شحنات الأسلحة لإسرائيل إذا استمرت العمليات العسكرية بعد اتفاق وقف إطلاق النار المؤقت (10).
أما البيت الأبيض، فأرسل خلال الأشهر الماضية عدة رسائل تحذيرية إلى نتنياهو بسبب اعتراضه على المقترحات الأمريكية والعربية بشأن نشر قوة دولية مشتركة في غزة، فيما نقلت وسائل إعلام عبرية أن نتنياهو تلقى “اتصالات غاضبة” من البيت الأبيض تحذره من تعطيل الاتفاق (11).
حلفاء الداخل ينقلبون عليه
حتى حلفاؤه من أقصى اليمين الديني، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، لم يعودوا يثقون في قدرته على تحقيق “النصر الحاسم”. فقد هدد الاثنان مراراً بالانسحاب من الائتلاف الحاكم إذا وافق على أي صفقة لتبادل الأسرى أو هدنة جديدة مع حماس، متهمين إياه بـ “خيانة القضية اليهودية من أجل غزة”. (12)
بهذا، أصبح نتنياهو محاصراً بين مطرقة واشنطن وسندان اليمين المتطرف. وكما علّق أحد المحللين في صحيفة هآرتس: “كلما ضاقت الدائرة حول نتنياهو، ازداد اقتناعه بأنه هو الوطن”. (13)
شارع يغلي ودولة تتفكك
داخل إسرائيل، يتواصل الغليان الشعبي ضد حكومة نتنياهو.
فوفق استطلاع أجرته القناة 12 العبرية في أكتوبر 2025، يطالب 68% من الإسرائيليين باستقالته فور انتهاء الحرب (14). وتشهد تل أبيب والقدس تظاهرات أسبوعية لعائلات الجنود والرهائن، ترفع شعار “أعيدوا أولادنا قبل أن تنقذوا صورتكم”.
أما الصحف العبرية، فتلخّص المشهد بكلمات قاسية:
“كل من تحمّل المسؤولية عن فشل 7 أكتوبر غادر المشهد… إلا نتنياهو نفسه” (يديعوت أحرنوت، 2025). (15)
غزة… المرآة التي كشفت العُري
الحقيقة التي يحاول نتنياهو إنكارها هي أن غزة لم تنتصر عسكريًا فقط، بل كشفت هشاشة المنظومة السياسية والأمنية التي بناها على مدار عقدين.
لقد جرّدته غزة من “ريشه” قطعةً قطعة، حتى وجد نفسه وحيداً في قمة السلطة، محاطاً فقط بالمتطرفين الدينيين الذين يهددونه بالانقلاب في كل لحظة.
وإذا كان خصومه في الداخل يرونه عبئاً على إسرائيل، فإن العالم بات يرى فيه وجه الحرب التي تجاوزت كل حدود الإنسانية.
كما كتب أحد معلقي هآرتس: “غزة لم تُسقط نتنياهو بالسلاح، بل بالمرآة… لأنها أجبرته أن يرى صورته الحقيقية لأول مرة“. (13)
بعد عام من حرب الإبادة على غزة، يجد نتنياهو نفسه في عزلة لم يعرفها من قبل.
فمن فقدان الحلفاء إلى تصدع المؤسسة العسكرية، ومن تدهور العلاقة مع واشنطن إلى تصاعد الغضب الشعبي، تتساقط أوراق رجلٍ بنى مجده على الخوف من العرب، فإذا به اليوم يخشى شعبه قبل أعدائه.
وهكذا، يمكن القول إن غزة -بصمودها الأسطوري- لم تكتفِ بإفشال أهداف الحرب، بل نتفت ريش بيبي نتنياهو حتى آخر شعرة، وتركته عارياً أمام العالم.
المصادر:
- Israel Hayom – Exclusive report on Ron Dermer resignation (Oct 2025).
- Haaretz – “Netanyahu’s Political Isolation Deepens” (Oct 2025).
- The Times of Israel – Profile: Ron Dermer, the Man Behind Bibi (2021).
- Yedioth Ahronoth – “Israeli Generals Step Down Over Gaza Failures” (Apr–May 2024).
- Jerusalem Post – “Military Shake-Up Continues After October 7” (2024).
- Maariv – “Ronen Bar Dismissed Amid Political Tensions” (2024).
- BBC Arabic – تقارير عن إقالة يوآف غالانت (Nov 2024).
- Al Jazeera – “Gantz and Eisenkot Quit War Cabinet” (June 2024).
- Politico – “Biden’s Patience with Netanyahu Wears Thin” (July 2024).
- Axios – “U.S.–Israel Rift Over Gaza Deepens” (2024).
- Haaretz – تقارير عن اتصالات غاضبة من البيت الأبيض (Aug–Oct 2025).
- The Economist – “Israel’s Disarray After Gaza” (Sept 2025).
- Haaretz – مقالات الرأي حول عزلة نتنياهو (2025).
- Channel 12 Survey – Israeli Public Opinion Poll (Oct 2025).
- Yedioth Ahronoth – افتتاحية “من تبقّى في الميدان؟” (2025).
 
				



