صحافة وآراء

مارك سافايا… ثلاث رسائل وخمسة ملفات

الدكتور ليث شبر

ليس من عادة واشنطن أن تعيّن مبعوثًا خاصًا لبلد ما إلا حين يتحول ذلك البلد إلى عقدة استراتيجية في معادلات القوة الدولية. وهذا ما حدث عندما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب تسمية مارك سافايا مبعوثًا خاصًا للعراق. وهذا القرار لم يأت من فراغ، كما لم يُصنع في قاعات البروتوكول الدبلوماسي، بل في غرف الحسابات الجيوسياسية حيث تُدار توازنات الطاقة والأمن والممرات التجارية والصراع الإقليمي.

مارك سافايا ليس دبلوماسيًا تقليديًا بل رجل أعمال أميركي من أصول عراقية كلدانية ينتمي إلى جالية مؤثرة في ولاية ميشيغن، ويملك شبكة علاقات اقتصادية واسعة، دخل من خلالها إلى عالم النفاذ السياسي في الولايات المتحدة. وسجلات التمويل الفيدرالي الأميركية تكشف دعمه لحملة ترامب في الانتخابات، كما ظهر في مناسبات مؤيدة له داخل ديترويت. وهذه الخلفية ليست تفصيلاً عابراً، بل تفسر جانباً من اختيار ترامب له: فالبيت الأبيض الجديد يفضّل مبعوثي النتائج لا المبعوثين البروتوكوليين؛ أشخاصاً قادرين على إدارة صفقات لا بيانات.

التوقيت يحمل رسائل ثلاثة: الأولى أن العراق عاد إلى قلب التنافس الدولي، والثانية أن واشنطن أدركت أن إدارة الملف العراقي عن بُعد لم تعد مجدية، والثالثة أن ترامب لا يريد سفارة تتعاطى يوميًا مع العراق فحسب، بل مبعوثاً يُعيد ترتيب العلاقة على أساس مقايضة مصالح لا شعارات دبلوماسية.

من يقرأ البيئة السياسية يدرك أن سافايا مكلف عمليًا بخمسة ملفات أساسية: الأول، تحديد مستقبل الوجود العسكري الأميركي بصيغة تفاوضية جديدة. والثاني، ضبط السلاح خارج الدولة ومنع انزلاق العراق إلى ساحة مواجهة إيرانية–أميركية مباشرة. والثالث، إعادة هندسة الاقتصاد العراقي باتجاه الشراكات والخصخصة المنظمة. والرابع، ضمان أمن الطاقة والممرات التجارية في ظل صراع الغاز والنفط مع روسيا وإيران، وأخيراً الخامس التعامل مع الانتخابات العراقية المقبلة بحيث لا تُفرز قوة سياسية معادية كليًا لواشنطن.

لكن السؤال الأهم: ماذا يريد العراق من مارك سافايا؟ هنا يظهر الفراغ الاستراتيجي. فالقوى السياسية ستتعامل مع التعيين بمنطق اصطفافي: فهناك من يخشاه وهناك من يرحب به سراً وهناك من يحاول استثماره انتخابياً. غير أن الإشكالية ليست في سافايا بل في غياب رؤية عراقية صلبة تحوّل التفاوض من موقع الدفاع إلى موقع صناعة الشراكات السيادية. فالعراق القوي ليس من يعادي الجميع، ولا من يخضع للجميع، بل من يدير شبكة مصالح مركّبة تجعل واشنطن وطهران وأنقرة والرياض وبكين تتجه نحوه لا تتصارع فيه.

إذا كان المبعوث الأميركي جاء ليحمي مصالح بلاده، فمن يحمي مصالح العراق؟ هنا يظهر الفرق بين دولة تمتلك مشروعًا ودولة تعيش على ردود الأفعال.

إننا منذ 2003 حتى اليوم ندور في الفراغ ذاته: فلا سياسة خارجية موحدة، ولا رؤية اقتصادية منتجة، ولا سيادة مؤسساتية بل سيادة بيانات. وهنا نقول بصراحة: لا يمكن مواجهة الدبلوماسية الأميركية بخطب انفعالية، بل ببناء قوة ذكية تفاوضية تملك أوراقًا على الأرض: اقتصاد حقيقي، أمن مستقر، قرار سيادي غير قابل للابتلاع.

وهنا يأتي دور مشروعنا الوطني في الدولة الذكية السيادية النابضة: فالعراق لا يحتاج إلى رفع الشعارات ضد المبعوث الأميركي، ولا إلى الارتماء تحت قدميه، بل إلى التفاوض معه على أساس مبدأ السيادة القائمة على المصلحة. فالمشروع يقدم نموذجًا واضحًا: دولة قانون لا سلاح موازي فيها، واقتصاد إنتاجي يقود التنمية لا الريع، وشراكات دولية لا تبعية، واستقلال قرار لا عزلة، وعقل استراتيجي يستند إلى القوة العلمية والتكنولوجية لا الارتجال السياسي.

مارك سافايا ليس إشكالية ولا حلا للعراق… فمشكلتنا أننا بلا طاولة وطنية تفاوض باسم العراق. وحين نمتلك مشروع الدولة السيادية الحديثة، وحينها لن يكون المبعوث الأميركي وصيًا بل شريكًا مؤقتًا في معادلة تحكمها قوة العراق لا هشاشته.

والسؤال الآن ليس: ماذا يريد ترامب من العراق؟ بل: متى يقرر العراق ما يريده من العالم؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى