ثلاثية الأكاذيب الكبرى (الجزء الثاني) – بقلم د. أيمن أبو الشعر
بدأ الأمر يختلف الآن ويزداد الناس وعياً، كمنصة للتوثب، المهم على الأقل أنهم باتوا يطرحون الأسئلة، في حين كان السائد هو مضمون بيت المتنبي: وليسَ يصحُّ في الأفهامِ شيءٌ إذا احتاجَ النهارُ إلى دليلِ
• غروميكو قبل أن يوافق على التقسيم اقترح مشروعا لتكريس دولة واحدة في فلسطين، ودعا السفراء العرب لمناقشته فلم يحضر أي سفير عربي، وأرسل المشروع إليهم فلم يرض استلامه أحد!
حملة الأكاذيب الثالثة تتعلق بمحاولة زرع اسفين الشقاق بين العرب وأصدقائهم، وخاصة روسيا عبر الهجوم والتشكيك بالاتحاد السوفييتي السابق، وأوضح هنا إمعانا في الموضوعية بأنني لا أنفي ولا أجادل في مسألة وجود مراحل ومواقف أيد فها الاتحاد السوفييتي اليهود، وإقامة دولتهم في فلسطين ضمن تصورات ومبررات يجب فهمها ومناقشتها وفق سياقها التاريخي، وهذا لا يعني بالطبع الموافقة عليها، ولكن لا بد من قراءة مختلف الجوانب لتقديم صورة موضوعية تغيب أحيانا للأسف في إطار تكرار ببغاوي لما تطرحه الدعايات المعادية للاتحاد السوفييتي…
-أسئلة جوهرية
ألا يطرح السؤال نفسه: لماذا إثارة حملة العداء للاتحاد السوفييتي الآن، وهو لم يعد موجودا منذ قرابة 35 سنة؟ ولماذا التركيز تحديدا على موافقة الاتحاد السوفييتي على قرار التقسيم؟ ولماذا يتم إغفال المواقف المناصرة للعرب وفلسطين قبل وبعد ذاك القرار بما في ذلك مدّ الجسور الجوية بالمساعدات العسكرية عام سبعة وستين، وعام ثلاثة وسبعين؟ أليس المقصود بكل بساطة التشكيك بموسكو اليوم التي تدعم الفلسطينيين بكل المجالات؟ أليس في الأمر محاولة بسيكولوجية لتهمش هذا الدور ومحاولة تصوير أن موسكو وواشنطن سواء، رغم أن موسكو تطالب بوقف الحرب على غزة، وواشنطن تستخدم الفيتو لاستمرار الحرب؟
من هنا لا بد من تناول ولو سريع لهذا الأمر ووضعه بحجمه الطبيعي.
ليس سرا أن انطباعات وأحكاما وانتقادات قاسية توجه للاتحاد السوفييتي، كما لو كان هو المسؤول عن إقامة دولة إسرائيل، بل وتصور وكأنه كان أول من اعترف بها، وفي مسألة دعم نشوء إسرائيل جانب من الحقيقة، ولكن ليس كل الحقيقة، بل هناك مجافاة للحقيقة بما يتعلق بخلفيات هذا الأمر وما رافقه وما سبقه.
والموضوع الذي سأتناوله ليس شائكا وحسب، بل وبالغ الحساسية. ولكني أنطلق في مقالتي هذه من البحث عن الحقيقة الموضوعية الموجودة بمعزل عن رغباتي ورغبات الخصوم، وفهمها وفق ظرفها التاريخي، وأعلن منذ البداية أنني لا أدافع عن الاتحاد السوفييتي، فهناك أخطاء مورست في عهده أنا ضدها حتما، ولكني أتحدث عن أمر محدد اتُهم الاتحاد السوفييتي بأنه وراءه، وتم تناسي الحيثيات التي أدت إليه.
– ما وراء السطور
الحديث يدور حول قرار الأمم المتحدة “181” بتقسيم فلسطين، وموافقة الاتحاد السوفييتي عليه، وما يشاع بأنه كان أول دولة تعترف بإسرائيل!!!
في الحقيقة الأمر في تفاصيل هذا الحدث يقارب استخدام الآية الكريمة مجزوءة “لا تقربوا الصلاة…” وتمر الأمور الدعائية على من لا يقرأ حتى السطور فما بالك والأمر يحتاج إلى قراءة ما وراء السطور.
في العودة إلى حيثيات قرار التقسيم وما مر به وما سبقه يتبين لنا بوضوح أن الاتحاد السوفييتي كان يناصر العرب أكثر بكثير من حكوماتهم التي لم تكن غالبا تملك قرارها، فقد كانت الدول الغربية تسعى بإصرار لإقامة دولة يهودية كي تكون رأس حربة في المنطقة العربية، ليس فقط لتكريس حليف استراتيجي سياسي اقتصادي ضد العرب، والسيطرة على موارد المنطقة وخاصة النفط، بل ولمواجهة تنامي حركة التحرر العربية وميولها نحو الاشتراكية وبداية تعاطفها مع الاتحاد السوفييتي باعتباره نصيرا لتحرر الشعوب، وبالتالي كان وراء طموح التوجه الغربي لإقامة دولة صهيونية هو إيجاد معادل قوي مواز لتنامي حركات التحرر والتعاطف مع الاتحاد السوفييتي، وفي إطار هدف مقارب باتجاه معاكس. كان الاتحاد السوفييتي -وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية وتصاعد التنافس بين المعسكرين على استقطاب الدول- يأمل في إيجاد دولة نصيرة له في المنطقة انطلاقا من بعض الحقائق، ومنها أن عددا هائلا من المهاجرين اليهود جاؤوا، وكانوا يأتون إلى فلسطين من بلدان الاتحاد السوفييتي، وبالتالي فإن عددا لا بأس به من زعماء اليهود هم من أصول روسية وسوفييتية من مثل غولدا مائير نفسها، ويمكن أن يساهموا في تعميق العلاقة مع الاتحاد السوفييتي، والعمل على بناء دولة اشتراكية أممية، بمعنى رؤية الحل عبر الممارسة التي يعتمدها الاتحاد السوفييتي نفسه من خلال الحس الأممي الإنساني، هذا هو المنطلق واقعيا، ولكن تفهمنا لمبرراته لا يعني أبدا الموافقة عليه، فهناك شعب تم جلبه من مختلف أنحاء العالم، ليحل محل شعب آخر أصيل يعيش فوق أرضه، وهو بالنسبة لنا شعب شقيق بل هو شعبنا.
-جانب هام جدا من حقيقة البواعث
هناك أمر مهم جدا تم طمسه وتناسيه، يتوضح لنا بالعودة إلى مقالة للكاتب عطية مسوح في صحيفة النور السورية العدد 285 آذار عام، 2007 ردا على وزير الإعلام السوري الأسبق الدكتور مهدي دخل الله، -كما تناول الأمر بوعي مميز الدكتور مصباح غيبة قبل سنوات-. يتبين لنا أن الاتحاد السوفييتي كان يناصر العرب أكثر بكثير من حكوماتهم رغم تعرضه إلى التشهير والهجوم معنويا في العالم العربي المحافظ، فقد كانت ترسم له صورة على أنه بلد الكفار، والحقيقة أنه كانت هناك في المراحل الأولى ممارسات غير مقبولة ضد ممثلي الأديان السماوية، وأيضا تصوير أنه مجتمع الإباحة الجنسية، وفي ذلك مبالغات هائلة حيث تسبقه المجتمعات الأوربية بأشواط كبيرة في هذا المجال. المهم أولا أن لجنة “اليونسكوب” التي شكلتها الأمم المتحدة من ممثلي 11 دولة خارج أعضاء مجلس الأمن هي التي قدمت مشروع التقسيم، وليس الاتحاد السوفييتي، وثانيا وهذا بالغ الأهمية أن الاتحاد السوفييتي في البداية أعد مشروعا آخر حمل اسم “مشروع غروميكو” حيث كان أندريه غروميكو مندوب الاتحاد السوفييتي في الأمم المتحدة، وركز غروميكو فيه على أحقية العرب الفلسطينيين، ودعا إلى عدم تقسيم فلسطين، وتكريس دولة واحدة فيها توزع النسب في برلمانها بحيث يكون للعرب 75% ولليهود 25% وبالتالي قصد غروميكو تفويت الفرصة على الدول الغربية في إنشاء دولة صهيونية بدعمهم وسيطرتهم خاصة أنه يمكن الحفاظ على الحقوق الفلسطينية من خلال نسبتهم في البرلمان.
-الانعطافة الجوهرية، لماذا؟
ولكسب دعم مقترح الاتحاد السوفييتي برفض التقسيم وتكريس دولة موحدة في فلسطين قام غروميكو آنذاك بدعوة جميع السفراء العرب إلى حفل شاي في مقره بقصد التفاهم وتبادل الآراء حول المشروع، وفيما إذا كان هناك ضرورة لبعض التعديلات… ماذا جرى؟ …لم يحضر ولا أي سفير عربي لهذا اللقاء، لم يعتبر الدبلوماسي المحنك غروميكو هذا الموقف إهانة، بل رجح أن يكون نتيجة ضغوط خارجية، أو من دولهم ذاتها ومعظمها تابع للغرب، فقام بخطوة أخرى لتكريس الحفاظ على فلسطين كدولة واحدة، فأرسل المشروع السوفييتي إلى جميع المندوبين العرب للاطلاع ومن جديد … ماذا جرى؟ … نعم رفض جميع المندوبين العرب استلام مظروف غروميكو الذي فيه مشروعه بتكريس دولة واحدة في فلسطين، حتى أن الكاتب المصري أحمد بهاء الدين كتب أواسط الخمسينات في مجلة روز اليوسف أن المندوبين العرب اتخذوا هذا الموقف بناء على موقف حكوماتهم التي كانت موالية للغرب.
وبالتالي لم يكن أمام الاتحاد السوفييتي إزاء ذلك حل آخر، فليس هناك مشروع بديل بعد أن أجهض العرب أنفسهم المشروع السوفييتي، فوافقت موسكو على قرار التقسيم، معتبرة أنه على أقل تقدير قد يعطي فرصة للفلسطينيين كي يكون لهم موطئ قدم على أرضهم ، ذاك أن الوضع عموما في فلسطين وجوارها العربي لم يكن على الإطلاق لصالح العرب الذين كانت دولهم لا تزال مستعمرة أو تابعة، وليست لديها القدرة الكافية لمواجهة الإنكليز وعصابات الصهاينة التي شرشت وروعت المناطق الفلسطينية، من هنا فإن موافقة الاتحاد السوفييتي على قرار التقسيم كان من جهة اضطرارا نتيجة مواقف العرب، ومن جهة ثانية فإن رفض قرار التقسيم من قبل العرب يبدو لي – والله أعلم- ربما كان بتشجيع غير مباشر من الدول التي تستعمرهم أو تهيمن عليهم إدراكا منها بأن قرار التقسيم سيغدو ساري المفعول، وعدم موافقة العرب عليه في وقت ليس لديهم القوة لتغييره أمر سيكون لصالح إقامة دولة إسرائيلية دون إقامة دولة فلسطينية. وهكذا أعلن الصهاينة قيام دولة إسرائيل ولم يستطع الفلسطينيون خلال أكثر من خمسة وسبعين عاما فعل ذلك، حيث تتلاعب إسرائيل والدول الغربية دائما بالمسوغات والمبررات والتريث والتلكؤ مع تشجيع توسيع دائرة الاحتلال.
بدأ الأمر يختلف الآن ويزداد الناس وعيا، كمنصة للتوثب، المهم على الأقل أنهم باتوا يطرحون الأسئلة، في حين كان السائد هو مضمون بيت المتنبي:
وليسَ يصحُّ في الأفهامِ شيءٌ إذا احتاجَ النهارُ إلى دليلِ