إنْ هي إلّا بضعة أيام، ويتنفّس نتنياهو الصعداء، متحرّراً من تبعات الضغوط الداخلية التي كانت تعصف به وبحكومته النازيّة، وكادت تودي به وتُعجّل في المستقبل الأسود الذي ينتظره لا محالة. فأي مخطط سلكه للهروب إلى الأمام من مصيره المحتوم؟
لقد أدرك نتنياهو بدهائه ومكره الصهيوني الأصيل، فور “طوفان الأقصى”، أنه قد دخل دوّامة الفشل التي ستعصف بمستقبله الشخصي القاتم، وبمنصبه الرفيع وبأحلامه الوردية بتتويج نفسه “ملك ملوك إسرائيل”، وهو الأهم لشخصه النرجسيّ المفرط في نرجسيّته. فخاطب رُعاة وصانعي كيانه بأن هبّوا لإنقاذ مشروعكم المترنّح، مطلقاً حرب “التحضّر” ضد “الهمجيّة” لاستنهاض قطاعات الغرب العلماني اللاديني، وحرب “النور” في مواجهة “الظلام” لدغدغة المشاعر الدينية لقطاعات لاهوتية ما زالت تؤمن بما ورد في “الكتاب المقدّس” بعهديْه القديم والجديد من خرافات، مدعِّماً مزاعمه وأكاذيبه بفبركات عن القتل والتنكيل وقطع الرؤوس وحرق الأحياء والاغتصاب.. عملاً بمقولة “رمتني بدائها وانسلّت”. فما كان من الغرب الاستعماري إلّا أن تبنّى الروايات الصهيونية المروّعة التي سرعان ما تهاوت أمام الحقائق الدامغة وتراجع عنها حتى مطلقوها بل واعتذر بعضهم عن ترويجه لها، وبطبيعة الحال فهذا التبنّي الرسمي الغربي لا يعود لنقص في المعلومات بل دفاعاً عن مشروعهم المهدّد، فهبّوا هبّة رجل واحد بقدّهم وقديدهم ليديروا بصورة مباشرة حربهم التاريخية ضد الشعب الفلسطيني والأمتيْن العربية والإسلامية… أمّا على الصعيد الداخلي، فقد نحى نتنياهو إلى تعويم المسؤولية عبر إعلانه حالة الحرب، وإستدراج معارضيه إلى مجلس حرب صُوري، يكون هو المهيمن عليه وصاحب الكلمة العليا والأخيرة فيه..
ومع تزايد الإخفاقات الميدانية بفعل الصمود الأسطوري المقاوِم، وتحوُّل شعار “وحدة الساحات” الفلسطينية واللبنانية واليمنية والعراقية إلى واقع عملي مؤلم ومُستعصي على الحلّ رغم شتى الألاعيب والضغوطات والمغريات. لجأ نتنياهو إلى الحلقة الأضعف والمطواعة في الواقع العربي، مطالباً ” العرب” وبمنتهى الصفاقة والوقاحة بضرورة التحالف معه في حرب الإبادة كي لا يحرمهم من مجرّد الأمل بنيل “شرف السلام” قائلاً: “ليس هناك أمل في السلام بين إسرائيل والفلسطينيين وبين إسرائيل والدول العربية إذا لم نقضِ على هذه الحركة (حماس) التي تهدد مستقبلنا جميعاً”. محاولاً وبدعم أمريكي وغربي منقطع النظير تشكيل “درع عربي” دفاعاً عن الكيان الصهيوني المجرم بحق العرب بشتى تنوّعاتهم الإثنية والمذهبية والقومية وعامّة المسلمين.. ثم اضطر انحناءً والتفافاً على ضغوط داخلية وخارجية متزايدة، للانصياع على مضض لهدنة مؤقتة عدة أيام، كانت فاضحة كاشفة لكثير من الحقائق في مقدّمتها حقيقة الكيان الإجرامي مقابل الظلم التاريخي الفلسطيني، حيث رأى العالم أجمع وقارن بين “نحن” و”هم” على كافة الصعد الحضارية والثقاقية والقِيَمية والأخلاقية، بحيث غدت لازمة نتنياهو حول “الجيش المقدّس الأكثر أخلاقية في العالم” مثاراً للسخرية والتندّر حتى لدى البعض داخل كيانه ذاته.
وواصل نتنياهو ولا يزال السير على ذات المنوال، حتى بعد انفراط عقد مجلس حربه، وتزايد عمليات تقاذف الاتهامات وتحميل مسؤولية الفشل بينه وبين القيادات العسكرية والأمنيّة، وتعاظم مظاهرات ذوي الأسرى وعائلات الجنود الغائصين في رمال غزة العزّة، وتحميله المسؤولية الشخصية في إفشال كافة “مبادرات” تبادل الأسرى حتى الأمريكية منها. وهنا لا بدّ من التوضيح أن كافة الخلافات مع نتنياهو تتمحور حول أسلوبه في إدارة الحرب، ومنطلقاته في الحرص على شخصه أولاً وقبل كلّ شيء، وليس على رفض إبادة الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته والتنكّر لحقوقه الوطنية الثابتة والمشروعة، فتلك مسلّمات لدى غالبية مكوّنات الكيان الإسرائيلي بلا نقاش أو جدال.. وها هو يجترّ ذات المسوّغات ليواصل مخططه الشخصي في الهروب إلى الأمام، حيث يعتقد بأنه قادر على الصمود والمكابرة حتى الخامس والعشرين من تموز الجاري، حيث سيدخل الكنيست الإسرائيلي سباته البرلماني لثلاثة شهور قادمة، يتحرر خلالها من إمكانية انفراط عقد حكومته الفاشيّة، وبعودة “الحياة البرلمانية” في تشرين ثاني القادم لا يمكن إجراء انتخابات إسرائيلية قبل آذار من العام القادم وفق أسوأ السيناريوهات. والأهم بأن ما سيتمخّض عن الانتخابات الأمريكية، إذ بدأ نتنياهو الذاهب إلى واشنطن يوم الرابع والعشرين الحالي، ذات نهج المكر والدهاء الصهيوني، والذي سبق أن استخدمه مع أوباما في أواخر عهده، فباشر حملته الاستباقية بتحميل بايدن وإدارته مسؤولية الفشل الإسرائيلي المتواصل، وتقديم أوراق الاعتماد إلى ترامب الذي ترجّح التقديرات حتى اللحظة فوزة رئاسة ثانية.
ولكن هل تجري الرياح بما تشتهي سفن النتن؟