قبل أن يتصاعد الدخان الأبيض من صناديق اقتراع الانتخابات الأمريكية، وينقشع غبار المعركة الانتخابية الضروس في الولايات الأمريكية، وخاصة ما يُعرف منها بالمتأرجحة، وحتى قبل أن يستبق ترامب صدور النتائج الرسمية معلناً على طريقته فوزه وعودته المظفّرة للمكتب البيضاوي.. انطلقت زفّة العرس الإسرائيلي بفوزه، وارتفعت في شاشات قنوانهم الفضائية الأنخاب، وتبادل مقدموا البرامج وضيوفهم التهاني والتبريكات، وهو مُحرّمٌ عليهم وفق شريعتهم.. وكان إسهال تصريحات سياسييهم الرسميين وغير الرسميين كلٌّ يعلن مبتهجاً اقتراب تحقيق ما حَلُم به من احتلال غزة واستيطانها، وضم الضفة وطرد أهلها نحو الضفة الشرقية لنهر الأردن، واستعادة عزبة سيناء وشرقي نيل مصر، وإعادة احتلال جبال أرز لبنان خاصّتهم، والقضاء على الجمهورية الإسلامية في إيران ومعها محور المقاومة، واحتلال سوريا والعراق وما يريدون من السعودية وكلّ الكويت، وتحويل إسطنبول إلى عاصمة إضافية ثانية لهم، وتجسيد كذبة “حدودل يا إسرائيل من الفرات إلى النيل”.. وحرص كبير مجرميهم النازي البولندي”بنزيون ميليكوفسكي” على أن يكون أولّ المهنئين كما فعل عندما فاز بايدن، وبدل ان يشكره على ما قدّمه من دعم شمولي غير مسبوق في التاريخ أو حتى يواسيه، أقدم على توجيه صفعة خسيسة له بإقالة وزير حربه ورجل إدارته في “الكيان” وسط حربه الوجودية المستعرة بطريقة خسيسة لم يفعلها أحد قبله في تاريخ الحروب. ولم يتبقّ سوى إعلان هذا “الكيان” الغادر الناكر لكلّ جميل على لسان كبيره المطلوب للعدالة الدولية بيان “النصر المطلق” المتحقق بفوز ترامب ودون حتى استشارته واتضاح ما ستنتهجه إدراته الجديدة من سياسيات خاصة…
ولعلّ هكذا سلوك غادر متأصل يعيد للأذهان، ما فعلته الحركة الصهونية مع روسيا القيصرية وبعدها الثورة البلشفية عام 1917 في سبيل خداع وتهجير اليهود الروس صوب فلسطين، ولاحقاً موجة الهجرة الكبرى مع انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينيات القرن العشرين الفائت. وما فعلته مع نظام هتلر النازي وشريكه موسوليني الفاشي الإيطالي من تهجير يهود غرب وشرق أوروبا نحو فلسطين “طوعاً أو كرهاً” وفق اتفاقية “هعفراه”، بحجة “استحالة وجود شعبيْن مختاريْن في مكان واحد: العرق الألماني وشعب الله المختار”، ومشاركة تشكيلات الصهيونية العنصرية البغيضة في التآمر على اليهود أنفسهم في معسكرات الاعتقال النازية وحتى في جريمة “الهولوكست” المُحرّم حتى الآن كشف خفاياها وفضائحها.. وما فعلته من تغيير تحالفها من ألمانيا باتجاه بريطانيا، ثمّ التحوّل نحو “ماما أمريكا” الصاعدة والمراهنة عليها كحصان أكثر ربحية من قارة أوروبا التي ظهرت عليها تجاعيد الشيخوخة..
وهنا نستذكر أيضاً، استقبال المهاجرين اليهود “الضعفاء المساكين” من الشعب الفلسطيني الكريم ـ الغني بقِيَمه وأخلاقه وتراثه الإنساني والحضاري ـ بالترحاب والاحتضان والإيواء، وما جرى من غدر وردٍّ للجميل.. وما جرى من تفجيرات في مقاهي و”كنس” العراق اليهودية.. وما تكرّر في مصر، ليبيا، المغرب العربي، وغيرها من تآمر على الجاليات اليهودية لوضعها أمام خياريْ: القتل أو الهجرة نحو فلسطين.. ورغم كلّ ذلك ـ وهذا الأمر يطول شرحه ـ لم تستطع الحركة الصهيونية من تحويل فلسطين إلى المكان المفضّل للمهاجرين اليهود، حيث حظيت أمريكا الشمالية، وتحديداً الولايات المتحدة بحصة الأسد منهم، هؤلاء الذين وصفتهم تلك الحركة العنصرية بأنهم “خونة” ومعادين ليهوديّتهم وساميّتهم المزعومة..
باختصار، يجد العالم نفسه أمام ظاهرة فريدة في التاريخ البشري، حيث تُشكّل هذه الجماعات البشرية نموذجاً سلوكيّا يحتاج من علماء النفس والمجتمع وحتى علماء الوراثة إجراء دراسات معمّقة لها: هل “شيمة الغدر” و”نكران الجميل” صفة وراثية جينية متأصلة فيهم، أم أنها صفة مكتسبة من ثقافتهم وتوراة وتلمود أحبارهم التي اكتتبوها وفبركوها بأيديهم، وأضفوا عليها طابع القدسية للذات وكره “الآخر” كلّ آخر ما عداهم.. وهل هم منتج طبيعي للثقافة الأوروبية العنصرية والسلوك الأوروبي الاستعماري المتوحّش، أم أنه سلوك متأصل خاص بتلك الجماعات المبعثرة في شتى أرجاء المعمورة.. أسئلة كثيرة تنتظر إجابات وافية ومنطقية؟!