مَن يعتقد أن اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان الذي أنهى قعقعة السلاح في لبنان قد يُنهي حرب “الكيان” على لبنان والمنطقة فهو واهم بل وملتبس، ولم يُدرك بعد الوظيفة المناطة لهذا “الكيان” الذي أوجده الغرب الاستعماري في فلسطين، والدور المُراد له أن يقوم به كقاعدة عسكرية قتالية متقدّمة لهذا الغرب في المنطقة للهيمنة عليها ونهب خيراتها وثرواتها، والحيلولة دون وحدتها وتنميتها ونهوضها، وفق خلاصة اجتماعات كامبل الماراثونية (1905 – 1907) ومفادها “حياة العرب تعني موت الغرب”، والعكس صحيح. وهو ما يعني أن حياة هذا “الكيان” قائمة على الحرب المتواصلة بلا انقطاع، والتي قد تتخذ أشكالاً متعددة بحكم الضرورة، من الحرب التقليدية المباشرة إلى المعارك المحدودة بين الحروب وفق توصيف بعض الصهاينة المولعين بالتلاعب بالألفاظ. لكن ما يبقى ثابتاً ومستمراً بلا انقطاع أو توقّف، هي حروب الظل التي يبرع بها الغرب الاستعماري وكيانه المصطنع.
منذ أن توصّل الغرب الاستعماري إلى عدم جدوى حروبه البينية، واتفاقه على المصلحة المشتركة في تصدير أزماته خارج القارة الأوروبية، وبناء مجده وصرحه الحضاري المزعوم على حساب الآخرين، وهو يعتبر الحروب لازمته الثابتة لتحقيق أهدافه النرجسية بالحديد والنار، وإراقة دماء الأبرياء من شعوب العالم الآخر، والاستيلاء على مقدّراتهم. متخفّياً وراء شعارات خدّاعة ومفبركة، فتارة يستغل الدين رافعاً “الصليب”، وتارة “مساعدة الشعوب الهمجية على التحضّر والتمدّن”، وتارة ثالثة “إشاعة الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة”، وصولاً إلى “فرض العولمة والثقافة الغربية المنحلّة”. وفي كل ذلك كانت حروب الظل حاضرة بقوة، وكان اختراع الإعداء بحسب الأهواء حاضراً كذلك.
لقد شهد القرن العشرين الماضي أحداثاً مأساوية كثيرة جمعت ما بين استراتيجية الغرب في حروب الظل واختراع الأعداء وافتعال الحروب الدموية والتدميرية، فمن إجماع الشرق والغرب معاً على هزيمة العدو النازي الألماني في الحرب الثانية، وانسحاب هذا الإجماع على زرع الكيان في فلسطين والمنطقة، ثم تحويل الشرق الذي كان حليفاً بالأمس إلى عدو، وشن ما يسمّى “الحرب الباردة” لتدميره، وما واكبها من استغلال الغرب العلماني اللاديني للدين الإسلامي، وتأسيس الإسلام السياسي كأداة فعالة في مواجهة إلحاد المعسكر الاشتراكي الشرقي. وبعد انهيار هذا المعسكر وتتويج نظام القطب الأوحد بزعامة واشنطن، وجد الغرب مطلع القرن الجاري في “الاسلام” عدواً جديداً تحت يافطة “محاربة الإرهاب”، واستغل الإسلام السياسي الذي صنعه ودعمه فيما مضى كورقة رابحة فيما يُدعى “الربيع العربي”، وسرعان ما حرق هذه الورقة بعد انتهاء صلاحيتها له، وأعاد إنتاج ودعم النظم الدكتاتورية العائلية والعسكرية من جديد، والتي تتخذ من قوى الإسلام السياسي وفي طليعته “حركة الأخوان المسلمين” الذي كان حليفاً لها عدوها الأول، وربّما الأوحد. وها هو الغرب يتخذ من “داعش” ومثيلاتها صنيعة واشنطن وتل أبيب باعترافهم، وفق مقولتهم التي واكبت حربهم المزعومة على الإرهاب “سنصنع إسلامنا الخاص”، مبرراً لبقاء احتلالهم وقواعدهم العسكرية المنتشرة في معظم دول المنطقة السيّدة المستقلّة وفق عضوية الأمم المتحدة.. وأخيراً وليس آخراً جاء اختراع “البيت الإبراهيمي” السياسي بلبوس ديني يجمع متناقضات يستحيل جمعها، بغية تطبيع كيانها المجرم الذي يرفض الآخر أيّ آخر من الأساس وفق خرافات توراتية وتلمودية اكتتبها أحبارهم عبر التاريخ.. وفي كلّ تلك المحطات كان لحروب الظل دورها المحوري المتواصل.
وعود على بدء، فإن سريان مفعول اتفاق وقف إطلاق النار، يعني بدء سريان حروب الظل مجدداً وبصور وأشكال أكثر حدة وضراوة من ذي قبل ـ وما مجزرتيْ “البيجر” و “اللاسلكي” بالأمس القريب سوى إحدى ثمراتها الإجرامية الخسيسة ـ لضرب كافة عناصر القوة اللبنانية التي حققت الانتصار في الميدان، والذي لن يسمح الغرب وكيانه ببقاء الحال على ما هو عليه، حيث يمسّ ذلك ليس مصالحهم المشتركة معاً فحسب، وإنّما يُهدّد حتى وجودهم في المنطقة برمّتها، هذا الوجود القائم على الحروب المستمرة وافتعال الفتن الدينية والطائفية والمذهبية والقومية وغيرها، بحسب تعبير مؤسس “الكيان” القتالي قائد عصابة الهاجاناة ومؤسس “الموساد” المجرم النازي البولندي بن غوريون أو بالأحرى “دافيد غرين”. وقد أُعذر مَن أنذر…