صحافة وآراء

“أفرغ ثم امتلئ” هل نظام تفكيرنا ينبغي أن يكون هكذا

د.جعفر نجم نصر

جاء أستاذ جامعي إلى المعلم التاوي (نان) ليتعلم على يديه، جلس الاثنان إلى مائدة الشاي وقام المعلم يصب الشاي في كأس ضيفه حتى امتلأت ولكنه تابع السكب حتى بدأ الشاي ينسكب من حواف الكأس فحاول الضيف تنبيه المعلم بلطف قائلا: ولكن الكأس امتلأت أيها المعلم، فتوقف المعلم عن السكب وقال: الأمر كما ترى أيها الأُستاذ أن الكأس الملأى لا تستوعب المزيد، لقد جئتني مُتخم بالأفكار والمفاهيم والآراء الثابتة فكيف أستطيع إن أعلمتك إذا لم تفرغ كأسك أولا..!

وفي أواخر القرن السادس الهجري وبعد إن استقر الشيخ نجم الدين كبروي (أحد أعمدة التصوف الكبار) في مدينة خوارزم، زار الشيخ فخر الدين الرازي (الفيلسوف المعروف) المدينة في أبهة لا مثيل لها, وقد تعددت الروايات عن لقائهُ بالشيخ نجم الدين, ففي الرواية الأولى التي رواها  الطاشكي زاده.

في كتابه (مفتاح السعادة ومصباح السيادة) قال: فأتى لزيارة الفخر الرازي من في المدينة من أمراء وعلماء، فقال لأصحابه: هل بقي أحد تخلف عن زيارتنا؟

فقال له أصحابه: نعم, بقي رجل صالح منقطع في الزاوية.

 فقال الرازي: أنا رجل واجب التعظيم، وانا إمام المسلمين فلم يزرني؟

فأُخبر نجم الدين بما قاله الرازي، فلم يرد عليه.

وفي إحدى الأيام أقام أحد فضلاء المدينة وليمة دعا إليها كبار المدينة وعلمائها، وكان من ضمن من دعاهم الشيخ نجم الدين والشيخ الرازي.

فلما التقيا قال الرازي للشيخ نجم الدين: لماذا تخلفت عن زياراتي؟

فقال له نجم الدين: أنا رجل فقير لا شرف لك في زيارتي، ولا نقص عليك في تخلفي.

فقال الرازي: هذه هي أجوبة أهل الصوفية؟

فسئله نجم الدين: ولأي شيىء وجبت زيارتك؟

فأجابه: أنا إمام المسلمين وواجب التعظيم.

فقال له الشيخ نجم الدين: إذاً إفتخارك هو بالعلم، ورأس العلم معرفة الله، فكيف عرفت الله تعالى؟ فأجابه الرازي: بمائة برهان.

 فقاله له الشيخ نجم الدين: البرهان لإزالة الشك، والله تعالى جعل في قلبي نوراً، لا يدخل معه الشك فضلاً عن الحاجة للبرهان.

وأورد الذهبي في (أعلام النبلاء)، بأن مناظرة أقيمت بين الشيخ نجم الدين والشيخ الرازي، فسئل الرازي الشيخ نجم الدين عن المعرفة؟

فأجابه الشيخ نجم الدين بقوله: هي واردات ترد على النفس، تعجز النفوس عن ردها.

فسأله الرازي: كيف الوصول إلى إدراك ذلك.

فأجابه: بترك ما أنت فيه من الرياسة والحظوظ (الإفراغ من ألانا).

فقال الرازي: هذا لا أقدر عليه وتركه وإنصرف.

وأما الإمام الشعراني فقد ذكر في كتابة الأجوبة المرضية، بأن الرازي جاء يطلب الطريق في ألف طالب، يمشون خلفه، فبلغ ذلك نجم الدين، فقال: إنه لن يطيق الطريق.

فما وصل الرازي إلى الرباط ظن الناس أن الشيخ سيقوم له، بل وسيمشي خطوات لإستقباله، لكن الشيخ لم يتحرك من مكانه، وبعدما سلم الشيخ الرازي على الشيخ نجم الدين سأله بقوله: يا أخي لماذا قدمت إلى بلادنا؟

فأجابه الرازي: جئت أطلب الطريق إلى الله تعالى.

فقال له الشيخ: لا تطيق ذلك.

فقال الرازي: بلى، أطيق إن شاء الله، فراجعه مرات والشيخ الرازي يأبى إلا أن يتتلمذ على يديه.

فقال الشيخ نجم الدين لمريديه: أدخلوه الخلوة، وقولوا له يشتغل بذكر الله تعالى.

 فدخل الشيخ الرازي الخلوة، فتوجه الشيخ نجم الدين إلى الله فسلب الرازي ما كان معه من العلوم (أفرغه)، فلما شعر الرازي بذلك صاح بأعلى صوته لا أطيق لا أطيق.

فأخرجه الشيخ وقال له: أعجبني صدقك يا فخر الدين، كيف تطلب الطريق مع الله مع حبك للرياسة على الأقران وتكبرك عليهم، وما عليك أن تكون عند الله إلى الركون إلى غيره، ولا دعوى عندك وملك كل شيء في الوجود له..

فبكى الشيخ الرازي وقال: خسرنا وفاز غيرنا. فقال له الشيخ نجم الدين: قد صرت من معارفنا، وكنا نود أن تكون من أصحابنا، أذهب إلى بلادك بسلام.

أن تجربة الأنبياء والرسل أسست على قاعدة أفرغ ثم امتلئ، أفرغ عقلك من أصنام المجتمع وأصنام العقل وأصنام النفس ثم امتلئ بالتوحيد.. حياتنا الانسانية /اليومية، أفرغ كل أنماط تفكيرك السلبي وامتلئ أملاً لكي تحيا بسكون.. تجديد الفكر الديني أفرغ من ذهنك المنظومة التقليدية لفهم الدين وامتلئ بمعرفة جديدة.. أفكارك السلبية عن الدين التي أخذتها عن مفكرين وتبنيتها من دون جهد عقلي منك أفرغها ثم امتلئ برؤية حيادية لكي ترى النور.. والإفراغ يحتاج إلى جهد عقلي ونفسي كبير بطبيعة الحال..؟. ولعل تحطيم ألانا المتضخمة هي الأصعب ولكنها الخطوة الأولى نحو الإفراغ لأجل الإمتلأ..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى