صحافة وآراء

قراءة في كتاب “العمامة والافندي” لفالح عبد الجبار “رؤية أنثروبولوجية”

بقلم د. مها أسعد

قدم الأستاذ العراقي فالح عبد الجبار عبر حلقات من مؤلفاته صورة للواقع السياسي الراهن في العراق على أساس تحليل الخلفيات الفكرية التي تنتمي لها وتنهل منها تلك الأحزاب، وقد حازت الأحزاب السياسية الشيعية على حيزاً كبيراً من طروحات الرجل الى حد يمكن القول إنها استحوذت على أغلب اهتمامه سواء في محاضراته ومقالاته التي تتوزع على شبكة المعلومات، أو على ما قدمه من كتب، ويكفي إن موضوع هذه الأحزاب كان الشاغل الوحيد لآخر ما قدمه من كتابات، ونعني بها هنا آخر كتابين صدرا له قبل رحيله المفاجئ في عام 2018، وهما (العمامة والأفندي) والذي كان في الأصل أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه، وقد كان سبق له نشره في لندن باللغة الإنكليزية بنفس عنوان الأطروحة: الحركات الشيعية في العراق (The Shiite Movement in Iraq)  وذلك بعد إضافات قام بها على نص الاطروحة الأصلي وبما ينسجم مع أحداث العراق فيما بعد عام 2003، ثم كتابه (الدولة)، والذي كان قد صدر من دار الجمل بعد موته بفترة وجيزة، وما يهمنا هنا بالدرجة الأساس في القراءة هذه هو كتابه (العمامة والافندي)، وذلك لما ناله من شهرة وترويج من قبل الكثير من الأوساط الثقافية داخل العراق وخارجه.

بعد عام من صدور كتابه (The Shiite Movement in Iraq) الحركات الشيعية في العراق باللغة الإنكليزية، أشرف فالح عبد الجبار على ترجمته الى اللغة العربية في 2010، وقد تولى نقل النص المترجم العراقي أمجد حسين، والكتاب في ترجمته العربية يتوزع الى خمسة أبواب رئيسية تتفرع الى سبعة عشر فصلاً، وأول ما يلفت الانتباه بخصوص الكتاب هو تحول عنوانه من الصيغة المباشرة التي يفترض بها أن تدل على المحتوى، الى صيغة عنوان مُلغز وفضفاض يتفرع عنه عنوان ثانوي في النسخة المطبوعة والمُعتمدة لهذه القراءة: العمامة والافندي (سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الديني) وان الغاية من العنوان الأخير الذي قام باختياره للكتاب هو جنبة إعلامية أو دعائية تحاول جذب القارئ من خلال عبارات ضخمة حتى وان جانب العنوان مضمون الكتاب الى حد ما، فالكتاب برمته كان يناقش الفكر الديني الشيعي الذي أنبثق ممن يرتدون(العمامة) فقط، وذلك من دون التطرق الى (الأفندي)، إلا اذا كان الباحث يقصد بالأفندي المؤلف ذاته فالح بنفسه اذ يناقش وهو الافندي تراث العمامة، وفي الوقت الذي يصرح العنوان الفرعي للكتاب بان موضوع البحث هو سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الديني، نجد أنفسنا أمام تناول مفرد لحراك معين قام فالح عبد الجبار عزله عن محيطه، ونعني هنا الأحزاب الشيعية التي أدعى الأستاذ أنه قام بكتابته بالبحث والتحليل وكذلك التأريخ لها، منذ قيام الدولة العراقية في عام 1920 الى مرحلة ما بعد احتلال العراق عام 2003، وأول ما يلفت الانتباه بخصوص اشتغاله هذا كان الوقوع في فخ منطق التصنيف الاستشراقي الذي حدد المجتمعات العربية عموماً والمجتمع العراقي على وجه الخصوص الى طوائف تُشكل كل طائفة منها كتلة ثابتة وشاملة لها اتجاهات سياسية ثابتة وأساليب حياة وعلاقات اقتصادية متقولبة؛ على ما يبدو فان الباحث فالح عبد الجبار مولع بتضخيم عناوين كتبه لغاية دعائية بحتة في محاولة لجذب القراء من خلال عبارات عمومية تحتل غلاف الكتاب، إذ يكرر نفس الأمر في كتابه الدولة: اللوياثان الجديد فتحت هذا العنوان العمومي الذي يوحي بمناقشة تاريخ فكرة الدولة نجده يؤرخ لتاريخ الدولة العراقية فقط لا غير، ويحاول أيهام القراء بوجود جانب ميداني في دراسته تلك من خلال ايرادهُ في الصفحة 55 من كتابه هذا فقرة مقابلات وحوارات كمصدر من مصادر بحثه، غير ان الباحث يعود ويعلن أنه من غير الممكن إعلان أسماء هؤلاء المخبرين لما يشغلونه او شغلوه في يوم من مناصب حساسة، لذا يقدم في فقرات كثيرة من كتابه معلومات لا يمكن البت بصدقها أو كذبها تحت مصدر أسم مُستعار لقيادي في الحزب الفلاني، كما وإن تعتيم أسماء المُخبرين أمر يُثير الريبة حول صحة مصادر البحث والى أي درجة يمكن الوثوق بما قدمهُ هؤلاء الافراد من معلومات.

إن أساس التفكير الديني والوسيلة الأساسية التي يمكن من خلالها فهم هذه الجماعات هي دراسة أفكار القيادات الدينية الخاصة بهم، فالجماعات والمذاهب والحركات الإسلامية كما يقول فالح عبد الجبار تتحرك من منطلق أساسي يسمهم جميعاً ويقود كل تحركاتهم، وهذا المنطلق (يتمثل في توكيد مركزية الدين فوق أي اعتبار أخر)، وهو ما يُلقي بظلاله حتى على الأحزاب القومية ناهيك عن الأحزاب الدينية، ومن هذا المُنطلق قام  بالتعرض لدراسة بعض مراجع الدين المؤثرين في النجف والذين كان لهم الثقل في تاريخ شيعة العراق المعاصر، أمثال السيد محمد باقر الصدر والسيد محمد تقي المدرّسي والسيد محمد الحسيني الشيرازي، ان المُطلع لتراث الافكار الماركسية يكتشف وببساطة تأثر الكاتب بطروحات هذه المدرسة وخصوصاً في منهجية تعميم الاحكام، ففالح عبد الجبار إذ رسم ملامح وحدود الطائفة بالطريقة التي ذكرناها سابقاً وكأنما يُكرر أفكار ومنهجية كارل ماركس عندما حاول أن يؤسس لفكرته عن نمط الانتاج الآسيوي، والتي حاول أن يعممها على أجزاء شاسعة من قارة كبيرة، وذلك بدعوى تشابه الظروف الثقافية والروحية وتشابه وسائل الإنتاج ومجالات العمل وكذلك نمط الحكم السياسي، وبنفس المنهج الانتقائي الذي تعامل به ماركس عندما قام بطرح أسماء شخصيات تاريخية من شرق آسيا لتدعيم أفكاره، تصرف فالح بانتقاء مراجع دينية ورجال دين من القيادات الروحية للمذهب الشيعي لدراسة ما، وتحت مظلة هذه الفكرة يقدم الأستاذ عبد الجبار ما يعتبره توثيقاً تاريخياً لأهم الحركات الاسلامية، والتي نجد بالرغم من تباينها يُكيل لها كلها بنفس المكيال، فهو يحلل تحت نفس الظروف ويقدم نفس النتائج عن الجماعات الأخرى: الاصوليون، الوهابيون، المتصوفة، حركات الاسلام السياسي مثل الاخوان المسلمين في مصر، وحزب التحرير الاسلامي في فلسطين، ثم الجماعات الشيعية التي زامنت قيام الدولة العراقية في عام 1920، وذلك على امتداد الجزء الأول من كتابه العمامة والافندي والتي تمتد صفحاته من 41 الى الصفحة 122، أنتقاه من افكارهم ومراحل من مسيرتهم بحجة الأهمية لهؤلاء الرجال من دون تعليل لتلك الأهمية التي يعتقد بها هو، وكانت الشماعة التي يروج من خلالها للكاتب كلما ضاق به مجال تعليل اختياراته أرضية الفوارق الطبقية التي كاد أن يعتبرها من جديد تحت تأثيرات الماركسية الارضية الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها لفهم السيرورة التاريخية التي انبثقت من خلالها الاحزاب السياسية المعارضة، سواء القومية أو الدينية داخل المجتمع العراقي، فعلى سبيل المثال يرجع فالح عبد الجبار تجدد نشاط المؤسسة الدينية في النجف بعد انهيار النظام الملكي، والذي يُرجع سببهُ الى قيام النظام الجمهوري بتشريع قانون الأحوال الشخصية الذي جعل مكانة رجال الدين تتضاءل، وتأفل سطوتهم السابقة، وهو ما تبعه تقلص ايرادات (الخُمس)، وهذا ما دفع بالمؤسسة الدينية الى ترميم مدارسهم والسعي للترويج لأنفسهم اجتماعيا من خلال تقديم الخدمات للناس، ومهاجمة الحكومة من خلال منشورات خاصة ووصمها بالإلحاد والشيوعية، ومن خلال سبق تكونت كما يقول فالح عبد الجبار (جمعية العلماء في النجف، والتي كان من بين ما أنتجته لاحقاً حزب الدعوة الاسلامي. أن ربط الباحث فالح عبد الجبار الحركات الاسلامية الشيعية بالمصالح الشخصية من خلال تغليب الجنبة الاقتصادية في مراحل تأسيسها، وإن هذه الفكرة تعود في نصوصه عند تناوله لواحدة من ابرز تلك الحركات التي قامت بعد عام 2003، ونعني بها هنا التيار الصدري، والذي كان الباحث قد أفرد لزعيمهم مقتدى الصدر مبحثاً أمتد من الصفحة 29 الى الصفحة 34 في بداية كتابه محور موضوعنا هذا، ونجده في هذا المبحث يُقدم زعيم التيار الصدري على أنهُ شخص مُتخبط سياسياً يتبعهُ تيار واسع من أبناء المناطق الفقيرة الذين من السهل عليهم حمل السلاح والقتل والقتال تحت أمرته، وبوفق الباحث فإن من ملامح تخبط مقتدى الصدر  زعزعة الأسس التي تقوم عليها الحوزة العلمية مثل الأعلمية والأسبقية وموضوع العمر، وتقديم قيمة القرابة واعتبار التكليف الديني بمثابة قيمة عائلية موروثة، وهو ما أحدث أكبر تحول دراماتيكي في تاريخ المذهب الشيعي؛ غير أن المُتابع لسيرة حياة الباحث فالح عبد الجبار سيصدمه ما سوف يقوم به الأخير مستقبلاً، وتحديداً في عام 2016 عندما قاد مقتدى الصدر موجة احتجاجات عارمة في بغداد ومحافظات عراقية اخرى، انتهت بتحالف الصدريين والتيار المدني الحزب الشيوعي العراقي لتشكيل ما أسموه في حينها بحكومة تكنوقراط، حيث كان الباحث فالح عبد الجبار أحد الأعضاء المقترحين لتشكيل هذه الحكومة الجديدة والتي كان يفترض بها ان تزيح حكومة حيدر العبادي في حينها، وقد أكد فالح عبد الجبار في هذه المرحلة تأييده التام لزعيم التيار الصدري الذي كان سبق وان قام بتوجيه النقد اللاذع له في كتابه (العمامة والافندي)، وبهذا الصدد كان للباحث مقالة تتحدث على من يدعو لحكومة تكنوقراط (في اشارة الى الصدر) هو علماني سواء ان كانت على رأسه قبعة او عمامة او برنيطة أو كان حاسر الرأس، العلماني قد يكون متديناً وقد لا يكون، وان مهمته إرجاع منابع السلطة الى المجتمع لا الالهة او انزالها الى الارض لا رفعها الى السماء، وهو ما يحيلنا الى اللبس السابق حول مفردات (العمامة والافندي) وما كان يعنيه بهما فالح عبد الجبار عندما أوردهما على غلاف كتابه.

يُمكننا حصر ثلاث نتائج مُكثفة لما تم طرحهُ من قراءة لهذا الكتاب والمُتمثلة في أن الأستاذ فالح عبد الجبار أنطلق لتحديد هوية الشريحة المبحوثة من خلال مرتكزات فكرية ماركسية كلاسيكية ترجع الى نهايات القرن التاسع عشر، ويمكن ملاحظة بصمة هذه المرتكزات على امتداد كتابه هذا، كما أن من أبرز الصفات التي حددها للطائفة والمذهب الجمود الفكري والتبعية الروحية لرجال الدين، وهو ما جعل من المذاهب والطوائف أشبه ما تكون بالجماعات المغلقة، كما أن سمة التعالي كانت من بين أبرز ما اصطبغت به طروحات فالح عبد الجبار حول الاحزاب السياسية الشيعية دونما غيرها والتي مارست الزعامة السياسة بعد  عام 2003، غير أن واقع سيرة الرجل النقض من خلال تجاربه الشخصية في الطريقة التي تعاطى بها مع تلك الاحزاب كانت مثيرة للاستغراب.

كاتب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى