عندما أطلق المُفكّر الألماني اليهودي الثوري في حينها كارل ماركس شعاره المُدوّي “يا عمّال العالم اتحدوا، ليس لديكم ما تخسرونه سوى قيودكم”، كان يهدف إلى دعوة المظلومين المقهورين المستغَلّين، إلى الاستيقاظ والتحرّك والاتحاد والنضّال لرفع الظلم الواقع عليهم، وتحرير أنفسهم من نير العبوديّة لرأس المال الجشِع الذي يسرق جهدهم ويمتصّ عرقهم، ويعتبرهم مجرّد “أشياء” ضمن ممتلكاته ومقتنياته المتضخّمة باضطّراد.. لم يكن يتصوّر أن هناك مَن سيأتي بعد خمسين عاماً بالتمام والكمال من إطلاق صرخته المعلنة في بيانه “الشيوعي” الصادر عام 1848، وممَّن ينتمون إلى “اليهودية” أو هكذا يدّعون، إلى التحالف العضوي مع رأس المال الغربي الاستعماري، ونسف مقولاته حول “الصراع الطبقي” جملة وتفصيلاً، وتحوير بعض الخرافات التوراتية حول “شعب الله المختار” لإعادة تقسيم البشرية جمعاء إلى “شعب الرب المقدس” و “الغوييم” أو الأغيار أو الآخرين، حيث حلَّ الرب “يهوه” في شعبه ومَنَحَه المباركة في كلّ ما يفعل وما تسوّل له غرائزه وشهواته أن يفعل، فهم وحدهم الذين خلقهم واصطفاهم “الرب” بشراً، ورأفة بهم خلق بقية شعوب الأرض على هيئة بشر، وسخّرهم لخدمة شعبه المختار، وهم بالحقيقة حيوانات يختلف تصنيف أصلها بحسب سلوكها تجاهه، ما بين حيوانات غير مرغوب بها تستوجب الإبادة كالأفاعي والفئران والجرذان والصراصير، وأخرى أليفة مطواعة ترضى بالاستعباد كي لا يحلّ عليها غضب “ربّ إسرائيل”.. مستثمرين ذلك في خداع عامة “الشعب المختار” المنبوذ في الغرب الاستعماري أولاً، وتحويله إلى وقود يوظّفه ذلك الغرب المتوحّش كيفما تشاء مصالحه الاستعمارية التي شيَّأت كل شيء من جماد وحيوان ونبات، وحتى الإنسان: سواء أكان أنثى أم ذكر، طفلاً أو كهلاً أو شيخاً هَرِماً. وحوّلت كل ذلك إلى مجرّد سلع تُباع وتُشترى، ووسيلة تُستَغلّ وتستهلك حتى بعد انقضاء عمرها الافتراضي وتصنيفها كخُردة. حيث لا مكان للفطرة الإنسانية المشبعة بالأحاسيس والمشاعر والمباديء والقِيم والأخلاق، بل المهم والأهم والغاية الأسمى تنامي الحسابات البنكية، وتزايد العقارات والممتلكات حول العالم الذي جعلوا منه غابة متوحّشة يسود فيها الأقوى والأكثر نَهَماً وشراهة.
ها هي فلسطين: مطمع الحضارات الصاعدة، مَكسَر الحضارات الهابطة، أرض السلام ومهد الإنسانية جمعاء، وبوابة الأرض إلى السماء.. تمنحكم الفرصة للتأمل والتفكُّر وإعادة الحسابات. وها هي غزة الصابرة المُحتسبة، تكشف الغثّ من السّمين، وتفضح كلّ مستور، وتستصرخكم لاستعادة إنسانيّتكم المسلوبة، ليس من أجلها، وإنّما من أجلكم، من أجل حاضركم ومستقبل أجيالكم الصاعدة.. لقد أذهلكم الفلسطينيون، وأحدثت فيكم غزة الأبية الصدمة، وبدأ كثير منكم الاستيقاظ من السّبات المفروض عليكم منذ قرون خلت، لكنّ الهمَّ الذي طالكم جميعاً يستوجب أكثر من تحرك أفراد وجماعات متناثرة هنا وهناك، فكلّكم في نظرهم “غوييم”. استثمروا فرصة فلسطين ومنحة غزّة، وانتصروا لأنفسكم ولإنسانيتكم اليوم قبل الغد، مردّدين بصوت جهوري جماعي صرخة: يا “غوييم” العالم اتحدوا!