منذ القِدَم توصّل علماء الكيمياء إلى استحالة اختلاط الزيت بالماء، لكن يبدو أن هكذا سنن كونية ثابتة لا تسري على المنطق البشري لحملة لواء القُطرية، الذين انتشرت أفكارهم المستوردة في الوطن العربي كالنار في الهشيم، حيث يجمعون بين رفض التقسيم الاستعماري الغربي للوطن العربي إلى دويلات قُطرية وظيفية، وما بين الاحتفالات الوطنية المقدّسة بيوم الاستقلال الوطني القُطري الناتج عن هذا التقسيم الذي يرفضونه ـ كما يدّعون ـ جملة وتفصيلاً، بل وينظمون أطنان أوراق النثر ودواوين قصائد الشعر يفوق بما لا يُقاس ما قاله مالك في الخمر.
وكي لا يختلط الحابل بالنابل، ويعتقد البعض رفضنا للانتماء الوطني وحب الأوطان، ويتهمنا زوراً وبهتاناً بمخالفة الفطرة الإنسانية، وربما يُدرجنا في خانة أعداء الوطن والإنسانية، وقد يذهب بعض علماء السلاطين إلى وصمنا بمخالفة السّنة النبوية الشريفة، في حبّ الرسول لمسقط رأسه وبيئة نشأته مكّة المُشرّفة حيث أهله وبيته وعشيرته وقومه الذين أجبروه على الهجرة منها للمدينة المنوّرة، وقد يُؤوِّل الجهابذة منهم الآية الكريمة 85 الواردة في سورة القصص: “إنّ الذي فرض عليك القرآن لَرادُّكَ إلى معاد. قل ربّي أعلمُ مَن جاءَ بالهُدى. ومَن هو في ضلالٍ مبين”، وهو وعد إلهي مستقبلي بإرجاع رسوله لبلدته مكة فاتحاً، كعادتهم في إخراج مخالفيهم من الملّة إن لم يكن تكفيرهم واستباحة دماءهم وأعراضَهم وما يملكون.
صحيح ان الوطن عزيز وغالٍ، والإنتماء الوطني مطلوب ومُستحب، لكن ما هو غير مطلوب ومكروه المغالاة في ذلك، وتجاوز حدود العقل والمنطق والجنوح نحو التعصّب القُطري الأعمى، ورفع شعارات برّاقة وخدّاعة من نمط: مصر الفرعونية، الأردن أوّلاً، لبنان أوّلاً، وهلمّ جرا… في استنساخ كربوني للتجربة الأوروبية لصعود الدول الوطنية الأوروبية المتناحرة، والتي كانت سبباً في إراقة دماء عشرات الملايين ودمار دول بأكملها في حروب طاحنة بمسمّياتها المختلفة، والتي انعكست على شعوب أخرى لا ناقة لها بها ولا جمل.. إلى أن توافقت تلك الدول على تصدير أزماتها ونزاعاتها القُطرية لخارج القارة الأوروبية من خلال الاستعمار الغربي البغيض الذي أسفر عن تقسيم منطقتنا العربية إلى دويلات قُطرية وظيفية بتنا نقدّسها ونمقت تقسيمها في آنٍ معاً، في حالة شيزوفرينيا مَرَضية واضحة المعالم والتشخيص.
الغريب في الأمر، اننا في الوقت الذي نستنسخ فيه تجربة الدولة القُطرية الوطنية الأوروبية، نجد أوروبا السّباقة للتعصّب الوطني بل والعِرقي قد تخلّت عمّا أنتجته في هذا المضمار، واتجهت نحو التوحّد ضمن تكتّلات وحدية كالسوق الأوروبية المشتركة التي مهّدت لولادة الاتحاد الأوروبي بصيغته الحالية، والذي يجمع 28 دولة ويعتمد رسمياً 23 لغة وعشرات القوميات والتنوع الديني والتاريخي المتناقض. مقابل وطن عربي بلغة واحدة وتاريخ واحد وجغرافيا واحدة وشعوب متداخلة ليس فقط في النسب بل وفي التطلعات والآمال والأهداف والأحلام المشتركة.