في القانون الإنساني الدولي عامة، وكافة قوانين الدول الوطنية خاصة، يُعتبر “المتّهم بريء حتى تَثبت إدانته”، وهذه القاعدة القانونية تسري على كافة متّهمي العالم بلا استثناء.. لكن الاستثناء الأوحد في هذا العالم الفسيح هي الفلسطيني، حيث اخترعت له قاعدة قانونية خاصة به وحده دون غيره، وهي”كل فلسطيني متّهم حتى تَثبت براءته” أو بالأحرى حتى يُثبت هو بنفسه براءته.. وهذا هو واقع حال الفلسطيني الذي اضطر رغماً عنه للجوء أو الإبعاد عن وطنه فلسطين. وأين، في الدول العربية. وممَّن، من ذوي القربي، الذين يعتبرون قضيّتهم المركزية فلسطين طيلة عقود طويلة خلت، وتصدح ألسنتهم، وربما تنضح قلوب بعض المغلوبين على أمرهم منهم، إن أحسنّا الظن، مع فلسطين الوطن السليب. فيما يُجرّدون سيوفهم على رقاب الفلسطينيين، وربّما هذه هي الحالة الوحيدة التي تخرج فيها سيوفهم من غمدها؟!
ربما لا يتخيّل احد هكذا واقع مرير، وقد يظن البعض أن هكذا واقع هو من نسج الخيال الهوليودي المبالغ فيه، لكن للأسف الشديد هذا هو الواقع المأساوي على حقيقته وربّما أشدّ وأظلم من ذلك بكثير. ويكفي متابعة ما يعانيه الفلسطيني في مراجعاته للدوائر الرسمية مضطراً، أو كيف تتم معاملته في المطارات والمعابر الحدودية، ورغم حصوله على الموافقات الأمنيّة المطلوبة بشقّ الأنفس في بعض الحالات وبعد تجشّمه عناء “السّبع لفّات” وتسوّله للواسطات “كرت غوّار” المعروف. وكيف يتم حجز البعض في المطارات العربية، ومنع البعض من مجرّد الهبوط، ويبقى طائراً في الأجواء متنقّلاً من مطار لآخر لعل وعسى يجد مّن يستقبله شفقة وحسنة لوجه الله.. الأمر الذي دفع خيرة الشّبات الفلسطيني لمغادرة الوطن العربي برمّته لعلّه يجد إخيراً إنسانيته المسلوبة من ذوي القربى لدى الغرباء، وخصوصاً في دول الطّوق الفلسطيني على وجه الخصوص، وهنا بيت القصيد.
تم التصديق على ميثاق جامعة الدول العربية يوم 22/3/1945، من سبع حكومات: سوريا، الأردن، العراق، السعودية، لبنان، مصر، واليمن. ثم وصلت عدد الدول الأعضاء تباعاً إلى 22 عضواً، وكيان مستقل وحيد هو كردستان العراق، ولكن العديد من البلدان تعتبر فلسطين ككيان مستقل، حيث تعترف الجامعة العربية من ناحية أخرى بدولة فلسطين كدولة مستقلة تماما وعاصمتها القدس وتنتشر سفاراتها في جميع الدول العشرين باستثناء الصومال.. والذي يؤيد ـ اي الميثاق ـ مبدأ إقامة وطن عربي مع احترام سيادة الدول الأعضاء، وهو ما يتطلّع إليه ويتوق له المواطن العربي منذ ما يقارب الثمانين عاماً، فلا وطن عربي إقيم، ولا لمس هذا المواطن أي مظهر جدّي للسيادة الوطنية، وربّما الفلسطيني وحده مَن اكتوى بنار هكذا سيادة وطنية…
على هامش القمة العربية يوم 11/9/1965 في الدار البيضاء المغربية، صدر بيان عُرف باسم بروتوكول الدار البيضاء أو بروتوكول معاملة الفلسطينيين في الدول العربية، من خمس مواد تهدف إلى تنظيم الحماية القانونية للاجئين الفلسطينيين المقيمين في دول العالم العربي، واعتبر هذا البروتوكول إحدى المحاولات الإقليمية المبكّرة في مجال حماية اللاجئين وتنظيم حق الفلسطينيين في العمل على قدم المساواة مع مواطني الدول التي يعيشون فيها، وضمان حريّتهم في التنقّل، وحقّهم في الإقامة، داعياً الدول الأعضاء إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة لوضعها موضع التنفيذ. وقد بقي هذا البروتوكول حبراً على ورق ككل قرارات ومخرجات القمم العربية، إلى أن تم إلغاءه فعليّاً عام 1991.
وعوداً على بدء، فإن التهمة التي يُطالب الفلسطيني تبرئة نفسه منها، لا تمس من قريب أو بعيد بأمن أو استقرار أو سيادة الدولة العربية المعنية، لا سمح الله، بل بملفّه التاريخي الشخصي، كفرد أو لسابع جد، بأيّة صلة تتمحور حول التورّط بأي شكل من الأشكال، وما أكثرها، بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي البغيض. وهي تهمة يستحيل على الفلسطيني إثبات براءته منها مهما بذل من جهد. ويبقى الحال على ما هو عليه، وتتواصل معاناة الفلسطيني المثقل اصلاً في الإقامة والحركة والتنقل والعمل وكافة الحقوق الإنسانية الأساسية من ذوي قربى، الذين يجمعون على التعامل مع فلسطين والفلسطينيين كملف أمني خالص تُناط مسؤوليته بالأجهزة الأمنية على اختلاف مسمياتها، فيما الإسرائيلي بجواز سفره الإسرائيلي أو جنسيته المزدوجة يتبختر مختالاً بكلّ كبرياء وترحاب من المحيط إلى الخليج سائحاً أو عاملاً أو مستثمراً، وما زال الفلسطيني المظلوم يتطلع بكل شغف وأمل سرابيّ منشداً: بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان، ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان، فلا حدٌّ يُباعدنا ولا دينٌ يفرّقنا، لسان الضاد يجمعنا بغسّانٍ وعدنانِ، لنا مدنيّةٌ سَلفت سنحييها وإنْ دُثرَت، ولو في وجهنا وقفت دهاةُ الإنس والجانِ، فهبّوا يا بني أمّي إلى العلياء بالعلم، وغنّوا يا بني أمّي بلاد العرب أوطاني. شاكراً الأستاذ فخري البارودي على هذه الكلمات الرائعة التي ستتحقق آجلاً أو عاجلاً!