حامض حلو

“الرايخ الرابع” في تل أبيب؟!

بقلم ريما أحمد

فجر عطلة السبت 2/11 الجاري التي يفترض أنها مقدّسة وفق الشريعة التوراتية المتداولة، أقدمت قوة كوماندوز بحرية إسرائيلية على تنفيذ عملية إنزال في عمق منطقة البترون شمال لبنان على بعد 140 كلم من حدوده الجنوبية مع “الكيان” واختطفت أحد المواطنين اللبنانيين.. رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ما زال ينتظر ردود مجلس الأمن الدولي على شكواه المرفوعة، مؤكداً على أن السلطات اللبنانية لم تتبلغ من القوات البحرية الألمانيةالعاملة ضمن قوات “اليونيفيل” والمكلّفة بمراقبة الشواطيء اللبنانية بموجب القرار 1701 المشهور.. قائد الجيش اللبناني جوزيف عون أحد الطامحين بالوصول إلى كرسي الرئاسة اللبنانية الشاغر حتى تاريخه، أفصح بأنه تبيّن أن قوته البحرية لم ترصد يومها أي خرق بحري على طول الشاطيء اللبناني، وأن قيادة جيشه ما زالت تنتظر توضيحات من قيادة “اليونيفيل” حول أسباب عدم وجود تحذيرات مسبقة، معبّراً عن شعوره بالإستياء من “الحملة الممنهجة ضد الجيش وقيادته والتي تتهمه بالتقصير”.. الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم شدد في كلمته المتلفزة الأخيرة على ضرورة إسراع قيادة الجيش اللبناني وقوات البحرية الألمانية المعنية تحديداً بكشف المستور في هذا الخرق الخطير الذي بات يحتل صدارة الاهتمام الأمني والسياسي والشعبي اللبناني.. فيما لم يعلن الجيش الإسرائيلي رسمياً كعادته أي دور له في العمية وقال لوكالة “فرانس برس” أنه يتحقق من “المعلومات” حول المسألة. في حين نقل مراسل “الحرة” الأمريكية في تل أبيب عن مسؤول إسرائيلي أن “إسرائيل ستعمل بكل الطرق في الحرب ضد حزب الله، وبجميع أساليب القتال من أجل ضرب المنظمة وتوفير معلومات استخباراتية ذات جودة. وفي كل مكان نتمكن فيه من أسر ناشطين رئيسيين سنقوم بذلك. يحدث هذا أيضًا في جنوب لبنان، وكما حدث في هذه العملية في شمال لبنان”.. ويبدو أن هذا الخرق الخطير للسيادة اللبنانية قد دخل في متاهة دوّامة جديدة لا قرار لها، تماماً كسابقتها في تفجير مرفأ بيروت الذي طواه النسيان حتى حين؟!

في هذه العجالة، سنركّز على الدور الألماني المشبوه الذي لم يتمكّن من رصد هكذا خرق للشواطي “المدنية” اللبنانية في حين ترصد السفن الحربية الألمانية الحامية للشواطيء الإسرائيلية المسيّرات والصواريخ التي تقترب من شواطيء وأجواء “الكيان” وتحاول جاهدة الحيلولة دون وصولها إلى أهدافها “العسكرية” المحددة.. ويبدو أن ألمانيا تعوّل على تل أبيب في استعادة تاريخها النازي الغابر، وبناء الرايخ الرابع في تل أبيب بعد اقتناعها باستحالة تشييده في برلين مجدداً.

للتوضيح فإن عبارة “الرايخ الألماني” تعني “الامبراطورية الألمانية” والتي مرت بثلاث محاولات لإقامتها: الإمبراطورية الرومانية المقدسة للشعب الألماني، والتي استمرت رسميًا حتى عام 1806، وكانت تعتبر الرايخ الأول.. والإمبراطورية الألمانية، والتي استمرت من عام 1871 إلى عام 1918، وكانت الرايخ الثاني.. في حين كان الرايخ الثالث هو الإمبراطورية التي طمح النازيون الهتلريون إلى إقامتها.. وتلك المحاولات الثلاث الفاشلة تستند إلى تفوّق الجنس الآري وتحديداً منه العرق الألماني، وأحقيّته في السيطرة على العالم بالحديد والنار.. وهو ينهل من نفس المشكاة للفكر العنصري الصهيوني والذي انبق من ألمانيا ذاتها ويستند إلى خرافة “شعب الله المختار” المقدّس الذي يفترض أن يسود العالم ويستعبد شعوبها ويستحوذ على ثرواتها وخيراتها، وتنصاع له كل ” الآخرين” من شعوب الأرض “الأغيار” الذين هم بالأصل “حيوانات بشرية” جعلهم “الرب” على هيئة بشر رأفة بشعبه المختار، وسخّرهم لخدمته، ومَن يستنكف أو يعترض منهم على ذلك يجب “محوه” من الوجود امتثالاً لما أمر “الرب” الذي أغضبوه وعصوا أوامره.

السؤال الذي يفرض نفسه: هل انتهت النازية فعلاً بسقوط برلين وهزيمة هتلر؟ وقائع التاريخ تؤكد على انتقال استمرارتها وتجسيدها عملياً في “الكيان الصهيوني” في فلسطين، وبدعم الغرب الاستعماري نفسه الذي تحالف للقضاء عليها في أوروبا، أو بالأحرى اعتقد أنه قضى عليها، حيث تشير الحقائق في الولايات المتحدة والدول الاوروبية المختلفة وحتى في ألمانيا ذاتها، إلى صعود وتنامي النازيين الجدد، وتأطيرها في حركات عسكرية واجتماعية وسياسية جديدة ومبتكرة تروّج للكراهية والعنصرية وسيادة ذوي البشرة البيضاء وتهاجم الأقليات العرقية والأثنية تحت يافطات “معاداة السامية والإسلاموفوبيا..”  وتُعدّ النازية الجديدة ظاهرة عالمية إذ يوجد ممثلين عنهم في العديد من البلدان، فضلًا عن شبكات دولية تابعة لهم. وتستقي النازية الجديدة مقولاتها من العقيدة النازية بما في ذلك معاداة السامية والعصبية القومية والعنصرية ورهاب الأجانب والتمييز ضد المعاقين ورهاب المثلية ومعاداة الشيوعية.. والدعوة لإقامة “الرايخ الرابع”، وصولاً حتى إلى إنكار “أيوقونة الغرب والصهيونية المقدّسة “الهولوكوست“، والتعبير عن إعجابهم بشخص أدولف هتلر وغيره من قادة النظام النازي. على الرغم من حظر القوانين في بعض بلدان أوروبا وأمريكا اللاتينية التعبير عن آراء عنصرية أو مؤيدة للنازية أو معادية للسامية أو كارهة للمثليين. وكذلك حظر العديد من البلدان الأوروبية العديد من الرموز المرتبطة بالنازية وخاصة في ألمانيا سعيًا منها للحد من النازية الجديدة. ولعل ما حصل في أوكرانيا منذ انقلاب 2014 ولا يزال نموذجاً مصغّراً يثبت ذلك!

في عام 1960 قابل دافيد بن غوريون المستشار الألماني اديناور في نيويورك في لقاء ودي. وتشكلت لديه ساعتها قناعة مفادها أن ألمانيا قد تغيرت ولم تعد موطنا للنازيين. وقالها صراحة: “لا يجوز لنا أن ننسى ما حدث، لكن من ناحية أخرى لا ينبغي لنا أن نبني تصرفاتنا على ما حدث”، وبسبب التقارب مع ألمانيا حصد بن غوريون انتقادات داخلية حادة.. وفي عام 1965، أي بعد 20 عاما على نهاية الحرب العالمية الثانية، قررت ألمانيا وإسرائيل إقامة علاقات دبلوماسية بينهما. السفير الألماني الأول إلى إسرائيل رولف باولس وصف القرار بأنه “مبكر نسبيا”، وقد قوبل عند وصوله إلى إسرائيل بالاحتجاجات. وحينها أطلق وزير الخارجية الألماني “فرانك فالتر شتاينماير” أحد أركان الدبلوماسية الألمانية مقولته الشهيرة: “ألمانيا تتحمل مسؤولية خاصة تجاه دولة إسرائيل، تجعلها ملزمة بالدفاع عن وجود إسرائيل وحماية حقها في الوجود”.

لكن الحقائق التاريخية تشير إلى أن العلاقات بين “الكيان” الوليد وألمانيا الاتحادية الغربية بدأت منذ استسلام ألمانيا النازية غير المشروط مع نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة، من خلال العلاقة السريّة بين المخابرات الألمانية و”الموساد”، تحت قناع “المفاوضات بشأن التعويضات الألمانية عن الهولوكست بتوافق مشترك على  الأهمية القصوى للسرية والكتمان.. وتركزت منذ البداية على الجانب التسليحي السرّي، ولا تزال حتى يومنا هذا، وما قضية سفينة المتفجرات الألمانية لصالح “الكيان” المجرم التي رست وأفرغت حمولتها في ميناء ااسكندية المصري، سوى مثال صغير على ذلك.. وعلى سبيل المثال لا الحصر، عقدت صفقة ضخمة عسكريا وسياسياً في مطلع ستينيات القرن العشرين الماضي، اشترت فيها إسرائيل “فائض” دبابات أمريكية اعطيت لألمانيا، وضمت 200 دبابة، مدافع متنقلة، 6 قوارب (لتكون قوارب صاروخية) وغواصات، وكالعادة لفّت السرية الصفقة ووصلت الشحنات الأولى دون ان تجذب انتباه. ولكن في أواخر 1964، تسربت الأخبار للصحافة الألمانية، فأنكرت اسرائيل وجود الصفقة، اما في المانيا فاشغلت الصفقة نقاشا كبيرا أثر على تطور علاقاتهم الثنائية، سريّة العلاقات والصفقات العسكرية أمر إستمر حتى بعد إقامة العلاقات الدبلوماسية بينهماعام 1965. وقد أفضى التعاون في مجال التسليح بين ألمانيا كخامس أكبر منتج للأسلحة في العالم، وإسرائيل التي تشكل الأسلحة أكبر صادراتها منذ العام 1989، لنمط يتميز بتوريد ألمانيا لمكونات عتاد رئيسية للصناعة العسكرية الإسرائيلية وعمل الصناعة العسكرية الإسرائيلية على دمج وتآلف المكونات التي تنتجها بدلا من استيرادها لأنظمة أسلحة كاملة، مقللين بذلك المخاطر السياسية التي قد تواجهها ألمانيا عند فتح نقاش عام حول صادراتها من الأسلحة، وتتموضع الصناعة الحربية الإسرائيلية كمورّد للإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات، وهو ترتيب فتح المجال لتكون إسرائيل محطّة تعيد تصديرمكونات ألمانية إلى دول ثالثة. وفي 2024 إفادت منظمة العفو الدولية أن الحكومة الألمانية “تتخذ موقفا إلى جانب واحد في صالح إسرائيل عبر كامل الصراع” في الشرق الأوسط، وأن إنتقاد الحكومة المحق لأفعال حماس كجرائم حرب، إلا أنها لا تسمي أفعال إسرائيل التي تنتهك القانون الدولي بذلك. ومع بدء الحرب الإسرائيلية على غزة عقب عملية طوفان الأقصى في اكتوبر 2023، ورّدت ألمانيا لإسرائيل ما قيمته 326 مليون يورو من الأسلحة”، ووقف المتحدث بإسم وزارة الصناعة الألمانية قائلا أن الحكومة تقرر بخصوص صادرات الأسلحة حالة – بحالة، وتأخذ بعين الإعتبار القانون الدولي إلإنساني والوضع القائم بين اسرائيل وحماس، قائلا (ليس هناك حظر على تصدير الأسلحة لإسرائيل، ولن يكون هناك حظر)!

وعلى الصعيد السياسي أدان المستشار الألماني “أولاف شولتس” تصرفات حماس خلال الحرب بين إسرائيل وحماس عام 2023 وأعرب عن دعمه لإسرائيل وحقها في الدفاع عن النفس. وانتقد السلطة الفلسطينية والرئيس الفلسطيني محمود عباس، قائلاً إن “صمتهما مخزي”. وفي 17 أكتوبر 2023، وصل شولتس إلى إسرائيل وحذر في نفس اليوم إيران وحزب الله من التورط في الحرب بين إسرائيل وحماس. وقال إن “ألمانيا وإسرائيل متحدان بحقيقة أنهما دولتان دستوريتان ديمقراطيتان. أفعالنا مبنية على القانون والنظام، حتى في المواقف القصوى”. ومن جهته تعهد وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس في زيارة إلى تل أبيب في 19 أكتوبر 2023، أمام نظيره الإسرائيلي يوآف جالانت بمواصلة دعم الجيش الإسرائيلي وتلبية جميع احتياجاته. ومن جهة أخرى، طالما رأت شخصيات سياسية عن عدم حيادية وانحياز المواقف السياسية لألمانيا لصالح إسرائيل، بسبب خجل الحكومة الألمانية من تاريخ ألمانيا النازية مع اليهود. في حين قال القس “ديزموند توتو” كبير أساقفة جنوب أفريقيا السابق الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 1984 وعام 2015 أن “الغرب قد ارتكب الهولوكوست بحق اليهود في أوروبا بينما يدفع الفلسطينيون ثمنا تاريخياً لهذه الجريمة”!؟

وفي السياق ذاته، تعتبر ألمانيا هي الشريك التجاري الأكبر لإسرائيل في أوروبا، وثاني أهم شريك لإسرائيل بعد الولايات المتحدة، وتبلغ صادرات ألمانيا لأسرائيل نحو 2.3 مليار دولار سنوياً. هذا فضلاً عن عشرات المليارات التي قدّمتها وما تزال ألمانيا لهذا “الكيان” تحت يافطة “تعويضات الهولوكست”، علاوة على مساهماتها الفنية في تشييد وإنجاز مشاريع بنيته التحتية غير المنظورة.

ما تقدّم يمثّل غيضاً من فيض يتطلب كشف خفاياه دراسات استقصائية وبحثية معمّقة، والأمر لا يقتصر على ألمانيا بل ينسحب على مختلف عواصم الغرب الاستعماري المنافق بكل ما تعنيه صفة المنافق من معان أقل ما يُمكن أن يُقال عنها وفيها أنها تتعارض مع القانون الإنساني الدولي والقوانين والتشريعات الأوروبية نفسها التي تتشدّق بها بل وتتفاخر بها تلك القارة العجوز “الحديقة” وسط “الأدغال” العالمية المتوحّشة؟!

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى