صحافة وآراء

حرائق كاليفورنيا بين التسييس و “التديّن” وغضب الطبيعة!

فضل المهلوس

منذ نشوب الحرائق المدمِّرة في كاليفورنيا واتساع نطاقها المتواصل ملتهماً المزيد من  المناطق.. ومواقع التواصل الاجتماعي على اختلافها وتنوّعها تغصّ بالتعليقات على هذه الكارثة، وسرعان ما انتقلت هذه الزوبعة إلى شاشات التلفزة بشتى اتجاهاتها وانتماءاتها، والكلّ يُدلي بدلوه معلّقاُ ومُحلّلاً وحتى مُستنتجاً بما يخدم اتجاهاته السياسية منها وملّته “التديّنية” وليس “الدينية” ـ فشتّان بين التديّن والدين ـ وبصورة أضاعت الأسباب والحقائق حول هذه الكارثة التي أصابت الولايات المتحدة في مقتل، كمثيلاتها من كوارث طبيعية كانت قد أصابت دولاً وشعوب أخرى سابقاً، وربّما تُصيب غيرها مستقبلاً في ظل ما يقترفه الإنسان من فساد وإفساد في الأرض الذي اُستخلف أصلاً وكُرّم بمنحة العقل و”التعقّل” بغية إعمارها والإصلاح فيها، ومُنح كافة الإمكانيات وتم تسخير كلّ ما في الكرة الأرضية له في سبيل ذلك.                                       

ساكن البيت الأبيض المرتقب دونالد ترامب وجد في الحرائق فرصته للانقضاض على إدارة بايدن الآفلة، فكال لها أقذع الاتهامات، محمّلاً إيّاها مسؤولية الفشل في وقف زحف النيران المندلعة في ولاية كاليفورنيا، قائلاً: “هذه ليست حكومة. لا أستطيع الانتظار حتى 20 يناير، لا ماء في صنابير إطفاء الحرائق، ولا أموال في الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ. هذا ما يتركه لي جو بايدن. شكرا جو”، وذهب إلى صبّ جام غضبه على حاكم ولاية كاليفورنيا “غافين نيوسوم” الديمقراطي، بالقول: “أحد أفضل وأجمل أجزاء الولايات المتحدة الأمريكية يحترق تماماً. إنه رماد، يجب على غافين نيوسكوم أن يستقيل. وهذا كله خطأه. لم ير أحد مثل هذه الأرقام الفاشلة من قبل! عدم الكفاءة الفادحة من قبل غافين نيوسكوم و(عمدة لوس أنجلوس) كارين باس والوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ التابعة لبايدن ليس لديها أموال – كل ذلك هدر في عملية احتيال. غافين نيوسكوم وطاقمه في لوس أنجلوس لم يتمكنوا من احتواء صفر بالمائة من الحريق”. أما رجل ظلّه إلون ماسك وجوقته، فقد أعتبروا ما يجري جزء من “مؤامرة عالمية” تُشنّ في سياق “حرب اقتصادية وإزالة الصناعة من الولايات المتحدة قبل التسبّب في الانهيار التام”، وعزوا فشل التعامل مع الكارثة إلى “أيديولوجيا التنوّع والمساواة والإدماج”. في حين ذهب مقدِّم برنامج “نيوز ماكس” روب فينيرتي إلى الاستنتاج أن السبب يعود إلى “حقيقة أن إدارة الإطفاء في لوس أنجلوس يقودها مثلي الجنس”، حيث أن “الرجال البيض المستقيمين فقط هم القادرون على القيام بعمل جيد”…

وإذا كان صحيحاً أن الفاجر بايدن وإدارته يسابقون الزمن في وضع المزيد من العراقيل في دواليب ترامب وفريقه، وعدم إقفال الملفات التي فتحوها على مصراعيها، بل وفتح المزيد من الملفات الشائكة لتوريثها وفرض التعامل معها، وفق منطق: “يا رايح كثّر قبايح”. فإن ردود أفعال ترامب وفريقه على كارثة الحرائق المستعرة قد ذهبت بعيداً في تسييس ما حصل، وهو ما يعكس ما بلغه الانقسام العمودي والأفقي الداخلي من مستوى غير مسبوق في التاريخ الأمريكي، ودرجة الاستقطاب المتصاعد في الولايات المتحدة، والتي وصلت للحديث عن فرز “نحن” و”هُم”…

ومن جهة أخرى، يذهب الكثيرون للربط عنوة ما بين كارثة الحرائق المستعرة، وما بين ما يجري في غزة وفلسطين من إبادة جماعية وجرائم بشعة وتطهير عرقي وتدمير ممنهج لكل مظاهر ومقوّمات الحياة، لم يشهد التاريخ الإنساني لها مثيلاً، وبمباركة ومشاركة أمريكية كاملة الأوصاف، وأيضاً غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي وغيره، وهو ما يشكّل وصمة عار وعلامة فارقة في التاريخ الإجرامي الأمريكي لا يُمكن أن يُمحى أو يُنسى، ليس من ذاكرة الشعب الفلسطيني المكلوم، بل ومن السّجل الإنساني عموماً. لكن مثل هذا الربط ليس من “الدين” في شيء، بل هو يعكس ثقافة “التديّن” الموروث، حتى وإن كانت منطلقاته ودوافعه نبيلة، وتعكس حجم الألم الذي يعتصر القلوب النقيّة لما يجري في غزة وفلسطين، فمفردات “الشماتة” و”الفرح” على ما يصيب الآخرين من كوارث الطبيعة، لا تمت للدين الإسلامي الحنيف بأدنى صلة، لأنه “دين” الرحمة والعدالة والسعادة للإنسان، مطلق إنسان. وحدهم أحبار التوراة والتلمود المُنحرفون والمُحرِّفون للكتاب المقدّس بعهديْه القديم والجديد مَن يفعلون ذلك، وهو ما عبّر عنه بعض هؤلاء الأحبار عندما ربطوا ما بين إعصار “ميلتون” المُدمِّرالذي ضرب سواحل فلوريدا الأمريكية يوم 10/10 من العام الفائت 2024، بغضب ربهم الخاص “رب الجنود يهوه” بسبب انتقاد بايدن وبعض أركان إدارته للمجرم نتنياهو وعصابته حينها. وهنا يجدر التذكير بأن مثل هذا الربط كان شائعاً أيام الجاهلية في الجزيرة العربية، حيث كانوا يربطون كسوف الشمس وخسوف القمر بوفاة “العظماء”، وهو ما صوّبه الرسول عليه الصلاة والسلام عندما ترافق حصول كسوف الشمس مع وفاة ولده “إبراهيم” بقوله: “إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يُخوّف الله بهما عباده، وإنهما لا ينخسفان لموت أو حياة أحد من الناس. فإذا رأيتم منها شيئا فصلّوا، وادعوا حتى ينكشف ما بكم”. وهو ما يدركه جيّداً الغزيّون خاصة ويجسّدونه حق التجسيد..

 وعليه فإن ما يحصل من كوارث طبيعية يندرج من جهة في سياق الحركة الطبيعية لصفائح الأرض التكتونية المتحركة للغلاف الصخري الخارجي لسطح الأرض والتي أدى انفصالها إلى تشكّل القارات والمحيطات والبحار والجبال، وتصادمها يؤدي إلى الزلازل والبراكين، وهو موضوع لا يتّسع المقام للإسهاب في الحديث عنه. ومن جهة أخرى يجسّد حجم العبث الإنساني الفاسد بالطبيعة المحكومة بسنن وقوانين كونية صارمة، من خلال تلويث البيئة، والتجارب التسليحية وخصوصاً أسلحة الدمار الشامل النووية والهيدروجينية والكيماوية والجرثومية وما شابهها، بالإضافة إلى شن الحروب التدميرية واستخدام مئات آلاف الأطنان من المتفجرات على اختلافها.. وهذا هو قمة الفساد وسفك الدماء البريئة، وبما يعاكس دور الإنسان المستخلف في الأرض وعليها، وهو ما يستثير غضب الطبيعة المبرمجة بإحكام، ويدفعها إلى ردّات فعل كارثية لإستعادة التوازن والتعافي الذاتي المبرمجة عليه، مما ألحقه بها الإنسان من فساد وإفساد، أهدر من خلاله تريليونات الدولارات، وأهلك الحرث والنسل، حيث كان يُفترض به إستثمارها في عمارة الأرض وإصلاحها، وخير وسعادة الإنسانية جمعاء. وهو ما يدق ناقوس الخطر، مُذكّراً البشرية برمّتها بضرورة احترام البيئة، ومراعاة عوامل تغيير المناخ، والعمل على الحفاظ على المساحات الخضراء والغابات الحرجية، وزيادتها باضطراد والعمل على حمايتها باستمرار. والأهم أن يتواضع الإنسان، ويدرك حجمه وإمكاناته وقدراته، ويعترف بضىآلة قوته مهما امتلك من تكنولوجيا تسليحية فائقة مقارنة مع قوة الطبيعة. وله من جائحة كورونا بالأمس القريب، حيث عجزت البشرية مجتمعة أمام فيروس لا يرى بالعين المجرّدة، خير تجربة وعبرة لمَن يريد أن؟!

كاتب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى