صحافة وآراء

كيف أطاحت الحسابات الإقليمية برجل الاستخبارات لاهور شيخ جنكي؟

ناجي الغزي/ كاتب وباحث سياسي

اعتقال لاهور شيخ جنكي لم يكن مجرد إجراء أمني عابر في مدينة السليمانية، بل لحظة مفصلية في تاريخ إقليم كردستان، أعادت رسم حدود القوة داخل بيت الطالباني، وكشفت في الوقت نفسه عن عمق التشابك بين المحلي والإقليمي في معادلة الحكم. فالشرخ الذي بدأ نزاعاً داخلياً على زعامة الاتحاد الوطني الكردستاني، سرعان ما تجاوز الأطر الحزبية ليغدو معركة حادة على هوية السليمانية، وعلى موقعها في صراع أوسع يمتد من مطار بغداد ليلة اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس رحمهم الله، وصولاً إلى الحرب المفتوحة بين إيران والكيان الإسرائيلي عام 2025.

ولعل ما يضفي على هذه اللحظة ثقلها أن لاهور شيخ جنكي لم يكن مجرد سياسي محلي، بل رجل أمن واستخبارات ارتبط اسمه بعواصم كبرى، وحمل معه منذ سنوات شبهة التورط في ملفات سرية غيّرت مسار الإقليم والعراق معاً. هكذا هي الحكاية، لم يكن ما جرى يوم الخميس و ليلة الجمعة سوى خاتمة مسار طويل، حيث التقت الحسابات العائلية بالحسابات الإقليمية لتطيح برجل عرف أكثر مما ينبغي، وتحرك في مساحات أوسع مما تحتملها التوازنات القائمة.

لاهور… رجل الاستخبارات وصراع التوازنات

على مدى عقدين ارتبط اسم لاهور شيخ جنكي بجهاز مكافحة الإرهاب الكردي، ذلك الجهاز الذي وُلد برعاية أميركية مباشرة بعد سقوط نظام البعث الصدامي ، ليصبح ذراع واشنطن الأكثر نفوذاً في شمال العراق. كان لاهور مهندسه الأول، وصاحب البصمة الأبرز في تحويله إلى مؤسسة استخبارية فاعلة، الأمر الذي ربط مسيرته بهوامش النفوذ الأميركي أكثر مما ربطها بدهاليز السياسة الداخلية في كردستان.

لكن مسار الرجل تغيّر حين ارتقى إلى صدارة الاتحاد الوطني الكردستاني عقب رحيل جلال طالباني. فقد وجد نفسه شريكاً في القيادة مع ابن عمه “بافل طالباني”، قبل أن ينفجر الصراع بينهما في صيف 2021. غير أن هذا الصدام لم يكن مجرد خلاف حزبي؛ بل مواجهة بين رؤيتين استراتيجيتين: لاهور، المتمسك بجذوره الأمنية وارتباطاته الأميركية، وبافل، الذي أجاد التكيف مع التحولات الإقليمية ونسج علاقة أوثق مع إيران وحلفائها. ومع الوقت، رجحت كفة الأخير، ليتراجع نفوذ لاهور، تاركاً خلفه سؤالاً أعمق حول حدود اللعبة بين الولاء الخارجي وتوازنات الداخل.

عقدة مطار بغداد وارتداداتها

اللحظة التي بدّلت مسار لاهور شيخ جنكي لم تكن داخل السليمانية، بل على مدرج مطار بغداد. ففي عام 2021 نشر موقع “ياهو نيوز” (Yahoo! News) وهو موقع أخباري تابع لشركة ياهو الأمريكية، تحقيقاً استقصائياً كشف تفاصيل خفية عن عملية اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس. من بين ما ورد في التقرير أن عناصر من جهاز مكافحة الإرهاب الكردي، الخاضع آنذاك لإمرة لاهور، شاركوا بشكل غير مباشر في العملية عبر التنكر بزي موظفين مدنيين للتأكد من هوية سليماني وجمع عينات من مكان الضربة.

حتى لو ظلّت هذه الرواية في دائرة التسريبات الإعلامية، إلا أن وقعها السياسي كان كافياً لنسف صورة لاهور في نظر طهران. فبالنسبة للإيرانيين لم يعد مجرد وريث لآل طالباني، بل تحول إلى شبهة تهديد جيوأمني في خاصرتهم الغربية. ومنذ تلك اللحظة دخل الرجل خانة “المشبوه” الذي يصعب الوثوق به، لتبدأ مرحلة التهميش والإقصاء بغطاء إقليمي، قبل أن تتطور إلى استهداف مباشر مع اشتداد المواجهة الإيرانية ـ الإسرائيلية لاحقاً.

بافل واستثمار اللحظة

على الضفة المقابلة، برز بافل طالباني كلاعب أكثر براعة في قراءة المشهد الإقليمي. فبينما أربك التسريب سمعة لاهور وأدخل علاقته مع طهران في نفق مسدود، تحرك بافل بخطوات محسوبة، مقدماً نفسه شريكاً موثوقاً للإيرانيين وقوى الحشد الشعبي. لم يكتفِ بإبراز التباعد بينه وبين ابن عمه، بل استثمر القصة ليقنع الأطراف الإقليمية أن بقاء لاهور داخل المعادلة يمثل تهديداً لاستقرار السليمانية والإقليم ككل.

حتى محاولات السيدة آلاء الطالباني النائب البرلماني السابق – والقريبة من لاهور – لترميم الجسور عبر لقاءات مع قادة الحشد، لم تجدِ نفعاً. فالصورة التي تشكلت لدى الإيرانيين كانت قد ترسخت: لاهور تحوّل من رصيد إلى عبء، ومن ورقة تفاوضية إلى خطر يجب التخلص من ظلاله. في المقابل، نجح بافل في أن يكون المستفيد الأكبر من تلك اللحظة الحرجة، مثبتاً حضوره كواجهة سياسية وأمنية أكثر انسجاماً مع المزاج الإقليمي

اتهامات ما بعد الحرب

لم يكن سقوط لاهور شيخ جنكي محصوراً في إرث علاقاته القديمة مع الأميركيين. فمع اندلاع المواجهة المباشرة بين إيران والكيان الإسرائيلي وحرب 12 يوم في ربيع 2025، ارتفعت حرارة الشبهات إلى مستوى جديد. تسريبات أمنية وإعلامية أشارت إلى أن الرجل وفّر غطاءً لشبكات استخبارية إسرائيلية داخل كردستان والعراق، سواء عبر تأمين ممرات آمنة للعملاء، أو تسهيل إدخال معدات متطورة، وصولاً إلى الطائرات المسيّرة التي استُخدمت في عمليات نوعية.

لم يصدر أي تأكيد رسمي، لكن مجرد تداول هذه الاتهامات في لحظة صراع مفتوح بين طهران وتل أبيب كان كفيلاً بإحكام الطوق على لاهور. فالرجل الذي كان يوماً أحد أبرز وجوه الاتحاد الوطني الكردستاني بات يُنظر إليه كخطر متعدد الأبعاد: ورقة محروقة داخلياً، وعبء استخباري إقليمياً، وتناقض مع المزاج الشعبي في السليمانية التي لم تكن مهيأة لتحمّل كلفة ارتباطاته. وهكذا، تحولت صورته من قائد أمني محلي إلى متهم محتمل في لعبة صراع دولي لا يرحم.

سرجنار… لحظة الحسم

جاء قرار اعتقال لاهور شيخ جنكي بمثابة الخاتمة لمسار طويل من الصراع، مسار يبدأ من مطار بغداد ليلة الثالث من يناير 2020 حين اهتزت المنطقة باغتيال سليماني والمهندس، مروراً بأزمة 2021 التي أطاحت به من قيادة الاتحاد الوطني، وصولاً إلى الحرب الإيرانية – الإسرائيلية التي دفعت طهران إلى تضييق الخناق على أي ثغرة محتملة في خاصرتها الكردية. في تلك اللحظة، وجد بافل طالباني الفرصة سانحة ليحسم المواجهة، محوّلاً مذكرة قضائية إلى عملية عسكرية محكمة.

ففي حي سرجنار وسط السليمانية، طوق “فندق لاله زار” الذي كان يتحصن فيه لاهور، لتندلع مواجهات مسلحة أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى، قبل أن تنتهي العملية باعتقاله مع شقيقيه. لم يكن المشهد مجرد صراع عائلي ينتهي باعتقال ابن عم، بل محطة مفصلية أعادت ترتيب المشهد الكردي على وقع الصراع الإقليمي الأكبر. فإيران، وقد دخلت في مواجهة مفتوحة مع الكيان الإسرائيلي، لم تعد تقبل بهوامش رمادية قرب حدودها، فيما سعى بافل لتقديم نفسه كضامن للاستقرار، ولو جاء ذلك على حساب تصفية إرث شريكه السابق.

كاتب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى