الإعلام الإسرائيلي.. أبواق حربية وأدوار تحريضية – حسن لافي
يسعى الإعلام الإسرائيلي دوماً لأن يكون البوابة الوحيدة التي يتلقى من خلالها المشاهد الإسرائيلي أخبار العالم العربي، بل إن من أهم أهدافه أن يتحول إلى العدسة أو النظارة التي يرى من خلالها الإسرائيلي الطرف الآخر (الفلسطيني والعربي)، وألا ينفتح مباشرة على العالم العربي وخاصة الشعب الفلسطيني من دون وساطة الإعلام الإسرائيلي.
فهيئة البث الإسرائيلية مثلاً، منعت بث خطابات السيد حسن نصر الله مباشرة للجمهور الإسرائيلي، بل يتم نقل بعض مضامينها عبر المحللين الإسرائيليين، بما يخدم الرؤية والمصلحة الإسرائيليتين، لأنهم يعتقدون أن نقل خطابات نصر الله مباشرة يخدم مصالحه السياسية وليس مصلحة “إسرائيل”.
والأمر ذاته مارسه الإعلام الإسرائيلي في حرب غزة مع خطابات الناطقين باسم المقاومة الفلسطينية، وفيديوهات مناشدات أسراهم لدى المقاومة، ومن خلال احتكار وسائل الإعلام الإسرائيلية تمرير المعلومات والتوجهات السياسية والأمنية أحادية الرؤية والتوجه للمجتمع الإسرائيلي تجاه قضايا الصراع مع الفلسطيني، وإبعاد أي جهة واتهامها بالخيانة إذا حاولت أن تقدّم رواية متوازنة عن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.
ينجح الإعلام الإسرائيلي في عملية غسل الدماغ الجمعي للجمهور الإسرائيلي الذي بغالبه لا يتكلم إلا اللغة العبرية، ويعدّ الإعلام الإسرائيلي مصدره الوحيد للمعلومة.
تعدّ صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية الأكثر موضوعية في المنظومة الإعلامية الصهيونية، بيد أنها أقل الصحف الإسرائيلية اليومية انتشاراً في الشارع الإسرائيلي، والسبب، محاولتها تقديم جزء من الرواية الأخرى الفلسطينية، والتي تتعارض مع رغبة الجمهور الإسرائيلي وشهوته، والذي يحلم باليوم الذي يختفي فيه الشعب الفلسطيني من الجغرافيا، بل ومن التاريخ ومن حياته اليومية.
على مستوى الإعلام المرئي، نجد أن اختيار الضيوف في استديوهات النقاش السياسي الإسرائيلية يعكس حدود النقاش المسموح به صهيونياً، خاصة في فترة الحرب، لذلك نجد كل صحفي إسرائيلي يخرج عن النمطية السائدة لا يجد له جمهوراً واسعاً لسماع وجهة نظره، أمثال، عميرة هيس وجدعون ليفي، اللذين يحاولان دوماً أن يقدما تحليلات عن الوضع الفلسطيني أكثر عمقاً من الرواية السطحية الصهيونية السائدة، لذلك يتم استبعادهما وأمثالهم من المقابلات التلفزيونية، وتنكمش أقلامهم في ظل هذه البيئة الإعلامية، خاصة في أوقات الحرب والطوارئ، التي يتجند فيها الإعلام الإسرائيلي بشكل كامل، وتتعالى المطالب منه تحت شعار “الحفاظ على الإجماع القومي” بتجريم أي رواية أو نقاش موضوعي خارج هذا الإجماع، حتى ولو كان يشوبه الكثير من الأخطاء.
وفي مثل هذه الظروف، يفتح هذا الإعلام المجال واسعاً لأشخاص موتورين متطرفين كمراسل الشؤون العربية في القناة “13” الإسرائيلية تسفيكى حزقيلي، الذي يعتقد أنه كان مطلوباً من “الجيش” الإسرائيلي أن يقوم بقتل 100 ألف فلسطيني في الضربة الأولى من حرب غزة، وأكد أنه لا يفهم معنى “أبرياء فلسطينيين ومدنيين في غزة”.
كل من يراقب ويتابع الإعلام الإسرائيلي من الخارج يصاب بالصدمة لرؤية التزام الصحفيين الإسرائيليين بالرواية الرسمية الإسرائيلية، كما صرح بذلك البروفيسور، يرون ازراحي، وخاصة في وقت الحرب، “ففي الحرب كما في الحرب” المصطلح الأكثر انتشاراً بين الصحفيين والإعلاميين في “إسرائيل”، الذي يفسر تحوّل الإعلام الإسرائيلي إلى أداة للدعاية والدعم للجهد العسكري لـ”الجيش”، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، الحفاظ على حصانة الجبهة الداخلية الإسرائيلية، والتأكيد الدائم على “شرعية” تلك الحرب، فالصحفي الإسرائيلي بشكل عام هو مستوطن ذو خلفية أيديولوجية صهيونية وجزء من مجتمع عسكري يؤدي الخدمة الإلزامية في “الجيش” بل هو جندي احتياط في صفوفه. في أحيان كثيرة، لا تكون هناك ضغوطات على الصحفي الإسرائيلي من مصادر خارجية أو من جهات عليا حكومية بأن لا يطرح وجهات نظر نقدية أو التشكيك في الرواية الرسمية، ولكن ينبع التزام الصحفي الإسرائيلي، وخاصة المراسلين العسكريين، من قناعة داخلية ذاتية يمكن تسميتها التجند الذاتي لدعم الرواية الرسمية، وخاصة في أوقات الطوارئ والحروب.
في أوقات الحروب، تعدّ أي وجهة نظر نقدية أو تشكيك عملية مساس “بالأمن القومي” الإسرائيلي، ويعدّ الصحفي الذي لا يلتزم ذاتياً صحفياً متمرداً خارج الإجماع الصهيوني، ولذلك يقدم الصحفي الإسرائيلي مصلحة الحفاظ على الروح المعنوية القومية، والوحدة المجتمعية تحت شعار الحصانة القومية على حرية الصحافة وحرية التعبير، ما دامت أصوات المدافع وجنودهم تتعالى على الجبهة.
إذا سلطنا الضوء على المراسلين العسكريين، فإن الأمور تزداد تعقيداً، إذ بالغالب يأتون من خلفية عسكرية وخدموا في وحدات “الجيش” القتالية، وتربطهم علاقات قوية مع قادة “الجيش”، وهناك علاقة طردية بين صلة هذا المراسل العسكري بقادة “الجيش”، وبين قدرته على الحصول على السبق الصحفي والوصول إلى المعلومات الحساسة والمهمة لأي صحفي حريص على الارتقاء في مهنته.
يستفيد “الجيش”، وخاصة الناطق باسمه، من تلك العلاقة في وصول رسائله الإعلامية كما يريد، عبر هؤلاء المراسلين، وخاصة إذا كانوا ذوي مهنية عالية وخبرة ولهم أسماء إعلامية مشهورة، الأمر الذي يسهل ويوسع وصول رسائل المؤسستين العسكرية والأمنية إلى أوسع قطاعات من الجمهور الإسرائيلي، وهنا تبرز مركزية العلاقة بين وحدة الناطق باسم “الجيش” الإسرائيلي وبين الصحفيين والمراسلين العسكريين.
من أجل تمتين العلاقة بين المراسلين العسكريين، الذين يعدّون ممثلي “الجيش” غير الرسميين في الإعلام الإسرائيلي، وبين وحدة الناطق باسم “الجيش” الإسرائيلي، تم تشكيل ما يسمّى “خلية المراسلين العسكريين”، التي هي جسم غير رسمي من الناحية القانونية، أعضاؤه مراسلون عسكريون على رأس عملهم في المؤسسات الإعلامية، يقومون بتغطية أخبار “الجيش” ووزارة الأمن والموساد والشاباك ومجلس الأمن القومي والصناعات العسكرية وهيئة مكافحة الإرهاب وكل ما يتعلق بالمؤسستين العسكرية والأمنية في “إسرائيل”.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن هناك فارقاً كبيراً بين الطريقة التي يتعامل بها الناطق باسم “الجيش” مع المراسلين العسكريين المنتمين إلى خلية المراسلين العسكريين، التي عادة لا يزيد عددها على 25 مراسلاً، وبين بقية المراسلين الآخرين، من حيث درجة الانفتاح على المعلومات ونوعيتها وحساسيتها الأمنية التي يتم تمريرها لهم، وفي المقابل هناك التزام تام من قبل المراسلين العسكريين بكل متطلبات “الجيش” والمؤسسة الأمنية بتوقيت وطريقة عرض تلك المعلومات ونشرها، وهنا يتحوّل المراسل العسكري إلى مجرد وسيط ناقل للمعلومة وليس صحفياً عليه طرح الأسئلة حول تلك المعلومة أو الخبر.
لعب المراسلون العسكريون الإسرائيليون في حرب غزة دوراً مركزياً في عدم تشكل تيار داخل المجتمع الإسرائيلي يدعو إلى وقف الحرب بعد ما يقارب 3 أشهر من القتال وتجنيد أكثر من 360 ألف جندي احتياط، وعدد كبير من القتلى الجنود والخسائر الاقتصادية، بيد أن الإعلام الإسرائيلي وخاصة المراسلين العسكريين يسوّقون للمجتمع الإسرائيلي أن لا سبيل آخر إلا الحرب، مستفيدين من حالة الهلع والفزع والخوف المسيطرة على الشارع الإسرائيلي، والرغبة في الانتقام والقتل والتدمير لكل ما هو فلسطيني، بعد معركة “طوفان الأقصى”.
وبالنسبة إلى الأثمان التي تدفعها “إسرائيل” من قتلى وجرحى وأسرى لدى المقاومة فهي، بالرغم من أنها أثمان موجعة، بيد أنهم يروّجون أنهم قادرون على تحمّلها، وأن أي هدنة عبارة عن استسلام وهزيمة، ناهيك بالعبارة المتكررة تقريباً على ألسنة المراسلين العسكريين “امنحوا الوقت للجيش لينتصر”، وشعار “معاً ننتصر”، لذا نجد داخل الإعلام الإسرائيلي من يهاجم الحكومة الإسرائيلية في أمور عدة مثل (النازحين – الموازنة- سلوك بعض الوزراء وخاصة إيتمار بن غفير)، وغيرها من المواضيع التي تناولها الإعلام الإسرائيلي بالانتقاد فترة الحرب، ولكن لم يسجل الإعلام الإسرائيلي انتقادات لـ”الجيش” وعمليته العسكرية في غزة، حتى في حادثة قتل جنوده للأسرى الثلاثة على يد “الجيش” الإسرائيلي في الشجاعية، إذ تبارى المراسلون العسكريون لإيجاد المبررات لهم من دون تجريم سلوك جنود “الجيش”، لدرجة أن رئيس الأركان هرتسي هليفي كان أكثر حدة بانتقاد جنوده من كل المراسلين العسكريين.
تم خلال هذه الحادثة تسويق “الجيش” على أنه المؤسسة الأكثر مسؤولية في “إسرائيل”، كونه أجرى تحقيقاً أثناء المعركة، بعكس هؤلاء الساسة الذين أجلوا تحقيقاتهم في فشلهم لما بعد الحرب في “كارثة السابع من أكتوبر”، إذ تكفي متابعة المراسل العسكري للقناة الـ 12 الإسرائيلية، الأكثر مشاهدة في “إسرائيل”، نير دفوري، لنلمس كيف يدافع عن “الجيش” بشكل حاد، بل لا يسمح لأحد أن ينتقد “الجيش” في نقاشات الاستديوهات التحليلية، ويكون متحمساً للدفاع عن “الجيش” أكثر من الناطق باسم “الجيش” الإسرائيلي، دنيال هاغاري نفسه.
وهنا، نصل إلى نتيجة واحدة أن هؤلاء المراسلين العسكريين ما هم إلا أبواق إعلامية لـ”الجيش” والمؤسسة الأمنية، وأن تحليلاتهم ليست أكثر من بيانات عسكرية صادرة عن “الجيش”، تستكمل دور الناطق باسم “الجيش” الإسرائيلي.
المصدر: الميادين