قصة قصيرة

الدولاب..!

بقلم فضل المهلوس

تتسلل الرطوبه الى مؤخرته وظهره كمياه جوفيه،  وتتسلق سلحفائيّاً الرقبه والراس،  فيرتعش كطير مذبوح،  ويسارع الى تكوير جسده النحيل،  مبعداً رأسه عن الجدار، ضاغطا إيّاه بين راحتيْه،  مُسنداً المرفقيْن الى الركبتيْن بعد أن طوى رجليْه للتو.  لعل بعض الدفء يداخله،  ولو حتى في الإحساس.

“آه. ما أقصى رطوبه هذه الزنزانه المتعفّنة،  وما أشدّ إيلامها في النفس قبل الجسد..  لكن يجب ان تتحمل.  تقاوم.  تصمد.  وتحيا”.

ـ  يا دارة دوري فينا. ضلّي دوري فينا..  يا دارة دوري فينا. ضلي دوري فينا..  لننسى أساميهم.  وينسوا أسامينا…

يصدح صوت أجشّ من زنزانه مجاورة،  فيكسر صمت الخارج،  ويقطع همس الدواخل ـ  وما ادراك ما همس الدواخل؟!

يرفع ثائر رأسه المدفون بين راحتيْه.  يزفر ما في الرئتيْن من هواء بارد مُتعفّن.  ويُجيل البصر في زنزانته الصغيرة ـ  ربما للمره الأولى بعد الألف. فيرى ذات المنظر:  جدران مُتّسخة.  أرضيّه مُتشقّقة.  مصباح كسراج الغولة يتدلى من السقف المُملّح،  وتتدلى معه خيوط عنكبوتية ـ  بالكاد يراها.  صراصير مختلفه الأحجام تصول وتجول مُجسدة وحدة الأجيال وغير الأجيال.  جراذين يشعر بحركتها تحت أرضيه هذه الزنزانة الموحشة،  التي فرضت عليه الوحدة فيها التعايش مع هذه المخلوقات التي طالما احتقرها وحاربها بلا هوادة…

“آه. كم أحسد هذه الجرادين والصراصير..  إنها تستطيع التنقل بين الزنازين والغرف،  ويمكنها رؤيه الشمس ـ  أجل الشمس ـ  وحتى مغادرة هذا السجن.  لكنني متاكد إنها لن تغادره،  فأين يمكنها أن تجد نفسها كما تجدها هنا. ها..  ها..  اين؟!”

يقف بتثاقل واضح،  يتمطى بكل ما تبقى له من حول وقوة.  يجوب الزنزانه الضيقه ويذرعها طولا وعرضا،  مُتخيّلا نفسه يجوب ويذرع شوارع بيروت بالأمس القريب.

“آه .. ما أجمل بيروت وما أحلى عيشتها.  فمنذ خروجي من البلاد،  جبت بلاداً كثيرة،  ولكنني لم أشعر بالغربة لدى مغادرة أي منها محملا ببعض الذكريات.  فكلها منافٍ.  أما أنت يا بيروت،  فقد وجدت نفسي فيك،  وكانت مغادرتي لك ـ  رغما عني والله ـ  منفى المنافي بعد النفي الكبير عن البلاد”.

تعود الأغنيه الفيروزيه الرقيقه بذات الصوت الأجشّ للتسلل من الزنزانة المجاورة من جديد:

يا دار دوري فينا.  ضل دوري فينا..  يا دار دوري فينا.  ضلي دوري فينا.  لننسى أساميهم.  وينسوا أسامينا.

يلمع في خاطره قول طرفة ابن العبد:

وظلم ذوي القربى أشدّ مضادة..  على المرء من…

وقع مفتاح ينسف باب  بيت طرفة،  ويعيد ثائر إلى حظيرته من جديد…

ينفرج الباب الحديدي ببطء،  مصدراً صريره المزعج المعتاد.  يدخل رجل حاني الظهر،  يحمل بين يديه دولاب.

ينعر الرجل برجله الباب،  كما تُنعر الدواب الخاملة.  فينغلق الباب ويتقدم الرجل نحو ثائر الذي يتبين في ملامحه جلاداً جديداً لم يعهده من قبل.

يلتقي ثلاثتهم وسط الزنزانه:  ثائر والجلاد وبينهما الدولاب.  ويتبادلان نظرات قبل الكلمات والصيحات،  فتصعقهما المفاجاة. ويدور دولاب الذكريات القريبة.  وَ…

 

……………………………………………………………………

صرخه “آآآخ خ خ” مدويه تقرع طبلتي ثائر،  كاسرة رتابة دويّ الانفجارات،  وخوار الطائرات المنقضة بين الفينة والأخرى كثور متعطش للون الأحمر.  يتردد للحظه.  تصفعه الصرخة من جديد.  تُمغنطه.  تهز إنسانيته بعنف كرياح خماسينية.  فيغادر حفرته المستطيلة كقبر منبوش فقد شاهده،  ويشق الغبار الذي خلفته الطائرات المدبرة،  غاذّاً الخطى صوب مصدر الاستغاثة.

ثوان من الهرولة عبر كثبان الأوزاعي الرملية،  يخالها قرن من البهلوانية على خيط رفيع يصل الموت بالحياة،  يجد نفسه في نهايتها وجهاً لوجه مع الألم.  يحاصره.  يشده بقوه.  يقبض بيديه على معصميه كملزمة حديدية.

ـ  دخيلك.  أنقذني.  لا أريد أن أموت.

ـ  ولا يهمك.  أنا معك.  ثم إن إصابتك بسيطة.

ـ  لقد تركت وحيداً.  وأشعر أنني مشلول.  مشلول.  مشـ.. لول.

ـ هون عليك يا أخي.  رجلاك سليمتان.  ستتعافى وتمشي،  فلا داعي للقلق.

ـ أرجوك.  أنا وحيد لامي وأبي.  ولي زوجة وخمسة أطفال ينتظرون رجوعي.  لا أحب الموت!

ـ لا عليك.  قد تعود إليهم سالما معافى،  وتعيش معهم.  وقد ألتقيك ضيفاً في إحدى محطات غربتي.  ولكن أترك يداي حتى أربط فخذيْك ليتوقف النّزف.

ربت ثائر على كتفه مطمئناً،  وخلع كوفيّته المرقطة.  شد بها إحدى فخذيْه،  وفكّ حزام جُعبته للفخذ الآخر…

الغبار لا يزال يحجب سماء آب اللّهّاب.  جئير الطائرات،  وشوشة الشظايا،  ورعد الانفجارات يمتزج في أذنيْه عندما هم بمغادرته.

ـ لا تخف.  دقيقه واحده وسأعود مع بطانيه ورفيقين لنقلك.

شد الجريح يسرى ثائر وتعلّقت آماله قبل عينيْه في وجهه.

ـ  لا تتركني.  أتوسّل إليك. لا…

ـ لا تقلق.  سأرجع فوراً لنجدتك ـ  إن قُدّر لي الرجوع.

وضع ثائر يمناه على اليد المتشنجه،  ضاغتاً إيّاها بين كلتا يديْه.  ثم ودّعه بابتسامة متفائلة…

الجحيم يزداد استعاراً.  الموت يحاصر الأنفاس،  ويلاحقهم كظل ثقيل،  حينما أودعوه سيارة الإسعاف اليتيمة.  وقبل أن يصفق  ثائر بابها الخلفي،  ويعود ثلاثتهم إلى حفرهم والمجهول،  شعر بالرجل يستنسخ ملامحه في ذاكرته.  ابتسم له،  فرد رافعا يديْه للأعلى:

ـ  لا أعرف كيف أُجازيك؟  لقد كتبت لي عمراً جديداً،  وأنا مدين لك ـ  بل لكم جميعا ـ  بحياتي.  أقسم على ذلك،  والله على ما أقول شهيد.

ـ  لا داعي لهذا الكلام،  فأنا لم أقم إلا بواجبي.  وعلى كل حال حمداً لله على سلامتك،  واذكرنا بالخير.

أغلق ثائر الباب،  وبقي يلوّح له مودعاً إلى أن توارت السيارة في المنعطف القريب. و…

 

……………………………………………………………………

صور الماضي القريب تتلاحق في ذاكرتهما..  دموع تدور كالدولاب في المقل الأربع..  حيرة ترتسم على محيّا الرجل المُتكدّر..  صرخة مكبوتة تكاد تنفجر من بين شفتيْه،  فيما يداه القابضتان على الدولاب ترتعشان بقوه…

 

………………… من ذكريات حصار بيروت 1982………………..

 

ـ الدولاب: هو إطار سيارات يشيع استخدامه كأحدى أدوات التعذيب.

 

كاتب

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى