يفتح باب شقّته على عجل. إنّها الحادية عشر ليلاً. موعد “بانوراما مونت كارلو” اليومي.
لكن اليوم ليس كباقي الأيّام..؟!
يتوجّه على الفور نحو المذياع، يدير قرصه، ومعه يدير حواسّه الست.
” قصف صاروخي كثيف..” يا إلهي.. هل هذا ما كان ينقص شاتيلا.. وممّن.. آخ خ خ خ؟!*
تقوده الذاكرة إلى سبع سنوات خلت. إلى حرب تموز 1981، حيث كان يقود وحدة راجمات صاروخية في القطاع الشرقي من جنوب لبنان، ويقصف مستوطنات إصبع الجليل.
يستعرض تفاصيل هاتيك الحرب كشريط سينمائي متسارع، ، ومع نهاية الشريط يزداد شعوره بالانقباض، وإحساسه بارتفاع حرارته.
صحيح إنه يوم حزيراني قائظ، إلّا أن حرارة احتراقه من الداخل لا تعادلها أيّة حرارة جويّة.
يغلق المذياع بعصبيّة على غير عادته، إذ اعتاد على متابعة هذا البرنامج بأخباره وتقاريره وحتى إعلاناته لنهاياته.
وبشكل هستيري يلتقط ـ وهو المشهود له والمحسود على هدوئه ـ سيجارة، يُشعلها بأنامل مَن يحاول الانتحار، ويُهرول كالهارب من شيء ما باتجاه الشرفة.
“هواء.. هواء.. ما أحوجني للهواء..”.
ينفث نفس السيجارة الأخير، يقذف عقبها بقوّةعلى البلاط، ويدوسها بحركة متوتّرة. ثمّ يعود أدراجه إلى الصالون، ليشعل أخرى، وأخرى، وأخريات…
ينهض من جديد ، يتوجّه إلى المطبخ، يفتح باب الثلّاجة بعنف، ويلتقط بتلقائية زجاجة ماء. وبثوانٍ ينقل كما لم ينقل من قبل ما في جوفها إلى جوفه. لعلّه يخفّف بعضاً من اشتعاله…
صالون ـ سيجارة، شرفة ـ هواء، مطبخ ـ ماء.. تتكرّر الدّوّامة، وتتغيّر متوالياتها. ويدور هو والزمن لا إراديّاً كالمضروبين على رأسيهما.. و.. يصفعه كالمعتاد زعيق الجارة لزوجها العائد من جلسات سُكره اليومية…
إنّها الواحدة ليلاً.
يتفرّس بالساعة الجدارية كأنّه يراها لأوّل مرّة، يحاول أن يضبط أنفاسه مع تكتكاتها.. وفجأة يُحسّ بها تتحرّك لمداهمته، ومع حركتها يشعر بالمنزل يضيق ويضيق، وبالجدران تزحف نحوه، تحاصره، وتكاد تطبق عليه كالكمّاشة.
يهرب مع نظره باتجاه المنفضة، فيجدها غاصّة بأعقاب السجائر التي يخالها رصاصاً منطلقاً صوبه.
يشيح بصره، يقف، يُدير ظهره للساعة والمنفضة، ويدلف مهرولاً نحو المغسلة…
يتقشّع بكل قواه لدرجة يعتقد معها أنّه سيتقيّأ قلبه. ثمّ يشهق ويزفر بشدّة كالخارج من غطس عميق. بعدها يُجرجر جسمه النّحيل إلى غرفة النوم. ويُلقي به كشوال تبن خفيف الوزن على السّرير…
يتقلّب يميناً ويساراً وعلى ظهره مرّات ومرّات. وأخيراً ينقلب على بطنه، ويدفن رأسه تحت الوسادة كما تفعل النّعامة في الصحاري. فيقع أسيراً لدوّامة سبات لا يُعرف متى صباحه..؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــحزيران 1985ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* حرب المخيمات هي المعارك التي دارت في الفترة الرابعة من الحرب الأهلية اللبنانية بين حركة أمل والجيش السوري والجيش اللبناني بالإضافة إلى بعض الفصائل الفلسطينية المدعومة من سوريا من جهة ضد قوات فتح الموالية لياسر عرفات ومقاتلي حركة المرابطون من جهة أخرى، حول مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في بيروت. دارت المعارك بين مايو 1985 ويوليو 1988.